المتهم بريء حتى تثبت إدانته.. إلا في محكمة السوشال ميديا

كتابة :
محمد سليمان

المتهم بريء حتى تثبت إدانته.. إلا في محكمة السوشال ميديا

 

“لا يجوز نشر الصورة “.  جملةٌ من أربع كلماتٍ كتبتها على صفحتي الشخصية في موقع فيسبوك، بعد انتشار خبر إلقاء القبض على “المتهم” بقتل الطفلة المخطوفة جوى.

 هذه الجملة كانت كفيلة برجمي بوابل من الشتائم والانتقادات المجتمعيّة والأخلاقيّة والمهنيّة، شعرت بعدها أنني “عدو الشعب”.

 تفهمّت ذلك على أنه “فورة دم”، وطلبت من كل رافض لرأيي، العودة إلى مختص بالقانون، أو أحد أساتذتنا في كلية الإعلام، للحكم على طرحي إن كان “صحيحاً أم خاطئاً”.

لم يطل الوقت حتى علت أصوات من أبناء مهنة الصحافة، وعدد من الحقوقيين، تستنكر نشر صورة واسم المتهم قبل أن تثبت إدانته، لتُواجه بالهجوم الذي تعرضت له نفسه، وتلحقها موجة غضب كبيرة تجلت بعشرات المنشورات الساخرة، مثل:  “والله احتارت الدولة شو تعمل لترضوا”، أو “أنتو أفهم من يلي نشر الصورة يعني؟”.

تذكرت قول الكاتب الصحفي “يعرب العيسى” خلال  فترة تدريبٍ شاركت بها في وقت سابق: “إعمال العقل وتطبيق المعايير المهنية الصحيحة يكون قبل أن تصبح الظاهرة قضية رأي عام، بعد ذلك، أي تصرف مهني وقانوني صحيح سيجعلك عدو الشعب”.

لذلك قررت كتابة هذه المادة  بعد بحث وطرح الأسئلة اللازمة على حقوقيين وناشطين وأساتذة إعلاميين متخصصين، ولكن قبل ذلك  كله، لا بد أن أذكر بحدثٍ حصل في العام  1995، عندما أرسل وزير العدل آنذاك” حسين حسون”  كتاباً لوزير الإعلام وقتها حول برنامج “الشرطة في خدمة الشعب” الذي  كان يقدمه الإعلامي المرحوم “علاء الدين الأيوبي”، وطلب فيه منع نشر أي معلومة عن قضية ما في حال عدم صدور حكم قضائي فيها، اعتماداً على المادة رقم 28\1 من الدستور السوري، والتي تؤكد أن كل متهم بريء حتى تثبت إدانته.

 

في أخلاقيات المهنة

 

ترى الدكتورة في كلية الإعلام نهلة عيسى “أن التغطية الإعلامية لقضية الطفلة الضحية جوى، لم تكن مهنيةً على الإطلاق، فإظهار وجه المتهم من جهة، والسماح له بشرح التفاصيل الدقيقة للجريمة من جهة أخرى أمرٌ ليس مهنياً وغير مقبول، فالمتهم لديه أولاد وزوجة، وعندما نسمح بذلك، نحن نساهم بغير وجه حق بتحميل العار لعائلته وأطفاله طوال حياتهم، وهم لا ذنب لهم بجريمته. إضافة إلى أننا قد نساعد في ثأر قد يستهدفهم؛ إذاً التعاطي الإعلامي مع القضية أثّر سلباً على أسرة المتهم، وأسرة الطفلة على حد سواء”.

تتابع الدكتورة نهلة: “في القانون الرجل لا يزال مشتبهاً به، والقضاء هو الذي يحدد إن كان جانياً أم لا، وعلى الإعلام عدم الانجرار وراء الرأي العام في حال كان ساخطاً أو خارجاً عن السيطرة، لذلك كان يجب على القائمين بالاتصال (الإعلاميين) العمل على ضبط الرأي العام، لأن الخروج عن قواعد العمل الإعلامي، أجج الشارع بدل أن يكون عامل تهدئة، واستقرار له كما تفرض أخلاقيات المهنة”.

الدكتور في كلية الإعلام أحمد الشعراوي قال: “إن نشر الصورة والاسم أثناء فترات المحاكمة خطأ، وهو أمر متعارف عليه في قوانين الدول، ولذلك تلجأ وسائل الإعلام إلى أسماء مختلفة أو تأخذ أول حرف من اسم المتهم انطلاقاً من  نفس قاعدة المتهم بريء حتى تثبت إدانته”.

يضيف شعراوي: “الأخلاق المهنية ثابتة ولا تتغير بتغير الأحداث، أي أن التعامل مع القضية لا يتغير ولو أصبحت قضية رأي عام”.

وفي السياق القانوني يقول الباحث والناشط المدني سامر ضاحي: “أنا متعاطف كلياً مع ذوي الضحية، لكن يجب التمسك بالقانون، لأن الانزلاق خارج الأطر القانونية من شأنه خلق بلبلة وخسائر بشرية مضاعفة، في هذه الجريمة عمل ضغط الرأي العام على دفع مؤسستين هامتين (الداخلية والإعلام) إلى التسرع وأخذ دور القضاء، فوزارة الداخلية جهة تنفيذية مهمتها إلقاء القبض على المتهمين وإحالتهم إلى القضاء، ولا يحق لها توصيف المتهم بالمجرم، كما أن السماح بتصوير المتهم وبث الصور عبر وسائل الإعلام مخالفة قانونية ومهنية، عززها تبني العديد من المؤسسات الإعلامية الخاصة لرواية الداخلية دون مناقشة قانونية الأمر”.

يشرح ضاحي: “الدستور أكد أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولم تقدم لا الداخلية ولا الإعلام  أي دليل ملموس للرأي العام يثبت تجريم المتهم، فالاعترافات التي تم بثها عبر قناة التلفزيون الرسمي، تضمنت تفاصيل تناقضت مع تقرير الطب الشرعي الأول، ومع صور الطفلة في السوبر ماركت قبل فقدانها، بالتالي ماذا لو تنصل المتهم من الاعترافات أو أقر القضاء براءته؟ من سيعيد له اعتباره؟ من سيعتذر من أسرته وذويه؟ وهل نضمن منع الانتقام؟، حقيقة هذا كله من شأنه “تعزيز خطاب الكراهية”.

يضيف الباحث والناشط المدني سامر ضاحي: “يتحرك الرأي العام في القضايا التي تمس أخلاقيات المجتمع، ومن المفروض أن لا تختلف هذه الأخلاقيات سواء تحول الموضوع إلى رأي عام أو لا. فهنا يأتي دور الضوابط القانونية والمؤسساتية التي ينذر غيابها بخطر تحول أي رأي عام إلى رد فعل شعبوي، قد يصل لعمل عنيف ولو بدرجات مختلفة”.

 

القانون يصون كرامة المتهم وإنسانيته

تقول المحامية لمى الجمل: “لا يجوز بأي حال من الأحوال نشر صورة المتهم سواء كانت القضية قضية رأي عام أو غيره، فالدستور يصون حرية التقاضي وحق الدفاع عن النفس، مبينةً أن الأقوال الأولية أمام عناصر الأمن أو الشرطة لا تكفي وحدها للحكم، والاعتراف أمام عناصر الأمن غير كاف وحده لبناء الأحكام ما لم يؤيد بأدلة أخرى معتمدةً على نص اجتهاد محكمة النقض السورية”.

توضح المحامية لمى: “القانون يصون كرامة المتهم وإنسانيته وحقه في الحفاظ عليهما طالما لم يصدر بحقه حكم مبرم يجرم فعله ويحدد عقوبته”.

يشرح المحامي رامي الخير قائلاً: “إن قانون العقوبات السوري، وقانون الجرائم الإلكترونية الذي صدر مؤخراً، كان واضحاً عندما نص على جرم الذم وعرفه بأنه نسب أي واقعة تنال من شرف وكرامة الإنسان، ولو في معرض الشك أو الاستفهام، وحتى لو كانت الواقعة المنسوبة حقيقية؛ سيعاقب المتهم بهذا الجرم بالحبس والغرامة”.

وبَيّن الخير: “العبث بخصوصية أي إنسان من غير موافقته، يشكل جرم انتهاك حرمة الحياة الخاصة، وهو أمر يعاقب عليه بقانون العقوبات السوري، ولا استثناءات، فلا يوجد في القانون أي نص يبرر فعل النشر بحال كان هناك قضية رأي عام،  وأن القول باستثناءات تجيز النشر بقضايا الرأي العام يعني التوسع بالتفسير، وهذا لا يتوافق مع ألف باء القانون الجزائي. ولذلك إن نشر صور المتهم لا يجوز إلا حين صدور حكم قضائي مبرم بأن المتهم هو الجاني”.

وهنا يتسائل الخير: “إن صحّ خبر حرق منزل المتّهم ألّا يعدّ هذا طمساً لمعالم الجريمة وضياع لهوية العدالة؟!”.

ربما يرى البعض، أنّ الحديث عن هذا الموضوع “ترف” وليس وقته الآن، وقد يرى آخرون أن دوّامة الصّمت هي الحل “إذا جن ربعك عقلك ما بينفعك”.

لكن نحن أبناء مهنة تعلمنا أسسها وخضنا غمارها، يجب علينا أن نلتزم بتطبيق المعايير المهنية التي تعمل على سلامة المجتمع واستقراره، ولكي تبقى الحقيقة والبحث عنها بوصلتنا والهدف الذي نعمل لأجله، لذلك دعوا “أبناء الكار” وأهل الخبرة يكملون عملاً  أفنوا سنوات من أعمارهم في دراسته والبحث فيه، من أجل اكتساب خبرة في التعامل مع مشاكل الناس وقضاياهم الشائكة.

الأخلاق المهنية ثابتة ولا

تتغير بتغير الأحداث

أحمد الشعراوي