أطفال الليل.. قصص من دراما حياتهم والواقع.

كتابة :
محمود عبد اللطيف

تقضي (سمرا) الصغيرة ذات العيون الواسعة، ساعات طويلة كل ليلة بجانب إشارة مرورية على لتبيع المناديل الورقية لأصحاب السيارات، وهناك من يشتري منها بسعر مضاعف عن السعر الذي تطلبه، فيما يعزف آخرون حتى عن النظر في وجهها الذي يشي بأن عمرها لا يتجاوز ١٤ عاماً، وهي ملزمة بعدد ساعات عمل قد يتجاوز عدد سنين عمرها مقابل الوصول إلى “يومية ” محددة لها من قبل والدها الذي يدير شؤون أسرة مؤلفة من ٨ أطفال وزوجتين.

  عائلة سمرا أسرة عاملة بكل أفرادها، بما فيهم الطفل الذي لم يتجاوز عامين من عمره، إذ حوّل بقرار أبوي لأداة تسوّل مع أمه، وسمرا المراهقة الصغيرة واحدة من مجموعة أطفال يقضون معظم ليلهم على إشارات المرور بهدف التسول المباشر أو غير المباشر، وقد يبدو الأمر اعتيادياً بالنسبة للمارة، إلا إذا عرفوا أن والدها اختار ساعات العمل المسائي لها ولشقيقاتها من الإناث، لاعتبار أن الناس ستصدق حاجتها للمال أكثر، “فمن تلك التي ستتسول لساعات متأخرة من الليل إلا من تأكلها الحاجة..؟”

 أعمال تحرش وشذوذ

في شوارع المدينة المعتمة، قد تجد طفلاً ينبش القمامة ليلاً ليسبق أقرانه من النباشين، وسيارات البلدية، إلى ما يمكن أن يكون ذو قيمة مادية.

أطفال ومراهقون صغار ينبشون القمامة لساعات تمتد بين الحادية عشر ليلاً والرابعة فجراً، ضمن مناطق العاصمة السورية، (خ .ل) واحدٌ من هؤلاء الذين يجمعون ما يمكن بيعه ضمن أكياس كبيرة تُحمل على الدراجة إلى الحي الذي يسكنه، وهناك ينتظر والدهم فجراً ليحمل ما جمعوه في دراجة نارية ثلاثية العجلات تعرف باسم “طرطيرة”، ويبيعه لتجار الخردة الذين بدورهم يتعاقدون مع معامل تستفيد من المخلفات لإعادة تدويرها كمواد أولية.

اختيار هذا التوقيت من الليل دفع بالطفل الذي لا يتجاوز عمره ١٣ عاماً لحمل “موس كباس”، يضعه في جيب بنطاله تحسباً لأي طارئ، يقول في حديثه ل “موج” أن الغرض من حمل السكين هو لحماية نفسه من الغرباء ولاستخدامه في العمل عند ضرورة قطع حبل أو ما شابه.

ويكشف (خ .ل)  لنا عن تعرضه لمحاولة تغرير من قبل من هم أكبر منه سناً الأولى حدثت من قبل رجل اقترب منه خلال عمله بنبش القمامة في منطقة جنوب دمشق، وعرض عليه مبلغاً من المال لقاء ممارسة الجنس، وحرفياً قال الرجل له: “تاخذ خمسين ألف وتروح معي ع البيت”، يقول الطفل أنه أخرج السكين من جيبه، وصرخ بوجه الرجل الذي اختفى سريعاً خشية من عابر يمر قرب المكان.

في المرة الثانية بحسب رواية (خ . ل) لاحقه نبّاش أكبر منه سناً ، بدأ بالتطرق لأحاديث  جنسية، ثم طلب منه أن يشاركه استراحة في إحدى الحدائق القريبة، الأمر أثار الرعب في قلبه؛ ودفعه للهرب مهدداً الرجل بأنه سيشتكي لأي دورية يصادفها إذا استمر بملاحقته.

( ز.ي ) فتاة صغيرة تتسول في حواري ريف دمشق. بدا الخوف عليها عند محاولتنا الحديث معها عن عملها، فالطفلة التي لم تتجاوز (١٢) عاماً من عمرها، تُزود قبل خروجها للعمل بتحذير شديد من والدتها لخطر مرافقة الغرباء، أو الحديث معهم في شأن يتعدى التسول، إلا أنها قبلت الحديث معنا قرب سيارة شرطة كانت تقف وسط المدينة في دورية ليلية.

شردت في منظر ثيابها المتسخة وكأنها لم تبدل من شهور، أعادني كلام  الصغيرة: “لم أذهب إلى المدرسة نهائياً، أعمل بالتسول في الليل لأن من يمرّ في هذه الشوارع  دفيعة وكرماء، أكثر ممن يمرون خلال ساعات النهار”.

 تعيش (ز.ي)  مع والدتها وثلاث شقيقات، وحسب روايتها فإن والدها “مفقود”، وهي رواية لا يمكن التثبت من صحتها لكون غالبية المتسولين من الأطفال يرددونها، لكن حذر الطفلة من التعاطي مع الغرباء والحديث معهم يشير إلى تعرضها أو إحدى شقيقاتها للتحرش خلال ساعات عملها الليلية.

 أما (سلفانا) التي تعمل في بيع الورد للمارة في  وسط المدينة، فتبدأ ساعات عملها عند العصر وحتى الواحدة ليلاً، وهو توقيت اختاره والدها الذي يمر لاصطحابها مع بقية إخوتها في هذا التوقيت وتصف تعرضها للتحرش خلال حديثها ل موج بالقول: “يجي واحد عامل حاله فهمان، يقلي تطلعي معي بالسيارة واشتري منك كل الورد، أو يجي واحد يقلي تاخذي ٢٥ ألف وتروحي معي”، هنا لا يكون أمام الفتاة إلا مغادرة المكان فوراً، وقبل أن تنهي كلامها تطالعنا بقولها ضاحكة: “أبزق عليه قبل ما أروح”.

غواية ودعارة ..كله حاضر

 

عند باب “المول” الزجاجي الكبير، حالة تنافس شديدة على الزبائن، والأطفال المتسولون يعترضون  طريق أي شخص يمد يده لجيبه ويعطي أحدهم، لكن مراقبة الأطفال؛ ستكشف عن وجود قاصرات يرغبن بالتسول من الشبان أكثر من غيرهم، ويستخدمن أساليب غريبة تبدأ من جمل التسول المعتادة وتنتهي بممارسة ما تصفه إحداهن “غواية وشوية مياعة”، لتحرج الشاب وتدفعه لإعطائها مبلغاً من المال لا يقل عن ألف ليرة حسب قولها.

تحدثنا الفتاة صاحبة الشعر الأشقر المشعث: “بعض الشبان يحاولون إقناعي الذهاب معهم لمنازلهم… أنا أرفض، لكن بعض الفتيات اللواتي يعملن هنا قد يقبلن إذا كان المبلغ المالي الذي يعرض عليهن مغرياً ولا يقل عن خمسين ألف ليرة”، ولتشرح  لنا الوضع أكثر تقول أن رفيقاتها بالتسول يتعرضن بشكل مستمر للتحرش ومحاولات الإغواء، ومن تقبل منهن تتقاضى المبلغ سلفاً.

تتسول الصبية ذات ال (١٥عاماً) نهاراً وسط شوارع العاصمة، ثم تقضي وقتاً من الليل في ساحة قريبة باحثة عمن يعطيها المال، تقول غالباً ما تتعرض للتحرش ومحاولات الإغواء من مرتادي الحديقة المجاورة لجسر المشاة القريب، أو من العاملين على “البسطات”، وحتى من المارة العابرين، وتوضح أن رفضها المستمر واستخدام اللسان السليط لا يجدي نفعاً في إيقاف حالة التحرش بها، وتشير إلى أن القاصرات والنساء ممن يتسولن في هذه المنطقة وخاصة في ساعات الليل يتعرضن لمثل ما تتعرض له، لكن البعض منهن يقبلن بممارسة الدعارة رغم صغر سنهن.

أعمال أخرى

 

لا يقتصر العمل خلال ساعات الليل بالنسبة للأطفال والمراهقين الصغار على التسول أو نبش القمامة، فهناك من يقطع مسافات طويلة وعلى دراجة هوائية أثناء رحلة عودته للمنزل في ساعات متأخرة من الليل، فالعمل في المطاعم ومحال تقديم الوجبات هو أكثر ما يمكن أن يناسب من هم  بين  (١٢ – ١٧)عاماً، وتشغيل هؤلاء وإن كان مخالفاً للقانون؛ إلا أنه عملية مستمرة، كون هذه الشريحة العمرية تتقاضى أجوراً أقل من سواها.

يزداد تعداد الأطفال والمراهقين الصغار العاملين مع سوء الأوضاع المعيشية لغالبية سكان البلاد، و(زيدان) واحدٌ من عشرات الأطفال الذين يجتازون المسافة من باب توما إلى جرمانا بعد أن يكون قد أتم عمله بتنظيف الأواني “الجلي”، في المطعم الذي يعمل به مقابل ٦٠٠٠ ليرة يومياً، وهو لا يعتبر أن العمل في الليل أمر شاق أو غريب بالنسبة له ولأقرانه، فهو حسب وصفه: “صرت زلمة.. أبي الله يرحمه تزوج وهو عمره ١٨ سنة”.

في شوارع المدينة المعتمة،تجد طفلاً

ينبش القمامة ليلاً ليسبق أقرانه النباشين

محمود عبد اللطيف