بألسنتنا دفعنا مصطلح “التنمُّر” إلى الواجهة.. لكن ما النتيجة؟

كتابة :
لمى علي

بألسنتنا دفعنا مصطلح “التنمُّر” إلى الواجهة.. لكن ما النتيجة؟

المرّة الأولى التي سمعت مصطلح “التنمر” قبل أعوام، كانت خلال مكالمة هاتفية مع صديقتي، التي زجت بالكلمة في حديثها بأسلوبٍ لا إمكانية لسؤالها عن المعنى، “عم أحضر الفضائية طالع برنامج عن التنمر”، لم أتجرأ على الاعتراف بعدم معرفتي ما معنى التنمر، وأنا الصحفية التي ترنُّ في أذنها دائماً عبارة والدها “الصحفي لازم يعرف عن كل شي”، فما كان أمامي سوى الاستعانة بـ “العم غوغل” للملمة بعض المعلومات عن المصطلح، وخاصة أن الكهرباء مقطوعة ولا مجال لمتابعة البرنامج الذي أشارت له صديقتي.

بعد الحادثة بأيام قليلة حضرت اجتماعاً لمحرري القسم في الجريدة التي كنت أعمل فيها، ذكر مترأس الاجتماع كلمة تنمر مرات عدة في توجيهاته عن المواد الصحفية التي سنعمل على إعدادها لاحقاً، وأكد على أن التعليمات “من فوق” جاءت بالتركيز على هذه الظاهرة، حينها كانت ملامح وجوه الحاضرين في الاجتماع تتباين بين ابتسامة كابتسامتي بأني (أبو العرّيف)، وابتسامة الصدمة كالتي شعرت بها أثناء مكالمتي مع صديقتي، وعندما تجرأ أحد المحررين وسأل رئيس القسم عن معنى التنمر، اكتفى بجملة مقتضبة: “هو العنف والسلوك العدواني”.

أصادف مصطلح التنمر في كل مكان أكون فيه؛ صفحات السوشيال ميديا، البرامج التلفزيونية والإذاعية، مقالات الصحف، نقاشات الأصدقاء، أمثلة المدرسين، حديث سائقي التكاسي، وهكذا انتشر المصطلح كالنار في هشيم، رغم أننا قبل ذلك كنا نتناول الأفعال نفسها في أحاديثنا وبرامجنا ومقالاتنا، لكن كنا نطلق عليها تسميات محددة (ضرب – شتم – مسخرة – إزعاج..) دون أن نعمم كل ذلك بكلمة واحدة واسعة تعني كل تلك الأفعال.

باتت الكلمة تتردد بكثرة وصار سلوك التنمر ظاهرة منتشرة، حقيقة لا يمكن الجزم إذا كان الحديث الدائم عنه ساهم إيجابياً في الحد منه أم في انتشاره. ذلك الأمر يحتاج إلى بحث ودراسات متخصصة لمعرفة النتائج الحقيقية لواقع الحال.  

 

على حافة اللغة

 

حول مصطلح التنمر لغوياً وانتشاره مؤخراً؛ يوضح الدكتور راجي شاهين اختصاص لغة عربية “إلى أن ورود مصطلح ما في إحدى اللغات يكثر عادة عند الحاجة الملحة لاستخدامه، بغض النظر عن التوافق بين معنى التنمر في العربية مع المعنى الاصطلاحي له الذي يتم تداوله حالياً في العالم العربي، فالتنمر مصطلح صحيح ذو جذر في اللغة العربية، ومن معانيه الغضب وسوء الخلق والتشبه بالنمر، والتنكّر والوعيد والكشف عن العداوة، والتعامل بوحشية، وغير ذلك من المعاني التي تتراوح بين القرب والبعد عن المعنى الاصطلاحي المستخدم”. 

يعتقد د. شاهين: أن سيادة مصطلح التنمر في الوقت الحالي على غيره من المصطلحات التي تعبر عن الظاهرة ذاتها مردها إلى وسائل التواصل الاجتماعي بالدرجة الأولى؛ لكونها في جانب من جوانبها وسيلة تحمل إيديولوجيات من أنماط مختلفة تقوم بإيصال أفكار منها إلى الجمهور المتلقي وتعمل على ترسيخها لديه، لأغراض شتى سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها، فكثرة الاستخدام الإعلامي للمصطلح وتردده بكثرة في وسائل التواصل الاجتماعي انعكس على المتلقي، فوجد نفسه مضطراً لاستخدامه رغم اتساع الدلالة ليوافق الوضع اللغوي والمعنى الضمني للمخاطب.

 يميل العرب في لغتهم إلى الدقة والتحديد في التعامل مع الأشياء والدلالة عليها، فلديهم مقابل كل جانب من جوانب التنمر لفظ يدل بدقة على الفكرة، مثل: (استهزأ، استخف، استنكر، ذلّ، أهان، ضرب) وغيرها من الدوال.

يمكننا القول: هذا إن دل على شيء، فهو يدل على انسياقنا وراء المصطلحات الدارجة واستخدامها، بغض النظر إذا كانت تدل بصورة دقيقة على ما نريد أن نعبر عنه أم لا، فحتى التسميات الدراجة أصبحت من أساسيات مواكبة عالم التواصل الاجتماعي.

مرحلة التوصيف

إذا آمنا بضرورة استخدام المصطلح الدارج لظاهرة ينطوي تحتها الكثير من الأفعال التي تحمل توصيفات مختلفة، فنسأل هنا: هل كثرة استخدام هذا المصطلح ساهمت في علاج الظاهرة؟ 

تشير الباحثة الاجتماعية الدكتورة حنان ديابي إلى أن استخدام مصطلح التنمر هو توصيف لظاهرة اجتماعية موجودة في مجتمعنا السوري أساساً، وهي ظاهرة العنف الذي تتصف بمعايير محددة منها التكرار والتعمد واختلال القوى، إلا أن المصطلح عمِل على توصيف وتأطير علمي لهذه الظاهرة، بغية فهمها بصورة أفضل لجعل التعامل معها ومعالجتها أسهل، فكان للإعلام دور كبير جداً في نشر وشرح المصطلح لتوصيف ظاهرة التنمر، غير أن الحديث عن ذلك لا يكفي؛ بل يجب شرح التجارب التي نجحت في التعامل مع هذه الظاهرة من خلال نماذج لتجارب بلدان  استطاعت الحدّ من انتشار التنمر.

تؤكد د.حنان: أن توصيف أي ظاهرة ضروري جداً لمعالجتها، لأن ذلك يعكس مدى تطور المجتمع وتفهمه للظاهرة، وبالتالي يلعب دوراً كبيراً في انتشارها أو عدمه، إلا أن الأهم من ذلك هو كيفية التعامل والتعاطي مع الظاهرة حسب توصيفها، ومدى نجاح الأخذ بالأسباب والأبعاد المرتبطة بها. 

وتشبه توصيف الظاهرة واستخدام مصطلح محدد لها بتشخيص الطبيب للمرض؛ فكلما كان التشخيص صحيحاً ودقيقاً، كلما كانت فرص العلاج أفضل، لكن للوصول للعلاج نحن بحاجة إلى المختصين في علم الاجتماع وعلم النفس للتعامل مع الظاهرة بالصورة المثلى، وأخذ الدور الإيجابي الفعال للتوصيف وتطبيق الحلول الممكنة، والتعاطي مع الظاهرة كعلاقة سلوك بجماعة، والتعامل مع أبعادها النفسية والاجتماعية والتربوية، وبالتالي توصيف وشرح مصطلح التنمر فقط غير كافٍ، وأيضاً التوقف عند ذلك يدل على أن محاولة الوصول إلى حل  أصبح عملاً مبتور.

هنا يتبادر إلى أذهاننا أكثر من سؤال؛ هل استطعنا بعد انتشار مصطلح التنمر أن نفهم الظاهرة بما يتوافق مع توصيفها؟ وهل انتهينا من مرحلة التوصيف وانتقلنا إلى مرحلة التعاطي مع الحل؟ أم أننا كما يقول المثل العامي “شاطرين بس بالحكي”؟.

ورود مصطلح ما في إحدى اللغات يكثر

عادة عند الحاجة الملحة لاستخدامه

راجي شاهين