خيطك مربوط بكفي!

كتابة :
غصينة قطيش

نزلت من سيارة الأجرة، تركت أمتعتها مبعثرة على الأرض وركضت مسرعة نحو غرفته، أغلقت الباب خلفها واستندت عليه بيدين مرتجفتين فقد أدركت متأخرة جداً أنها -وقعت في الفخ-

أرعبها ما تسمع من صراخ الرجال ونحيب النساء وعلى ما يبدو أن -الحكم قد صدر وانتهى الأمر-.

كل الوعود كانت كاذبة فمنذ يومين فقط زاروها في بيتها، وقالوا:”إنهم إخوتها وسندها ولاغنى لهم عنها، كما إنهم يحترمون خيارها، فهو صهرهم بكل الأحوال بغض النظر عن دينه أو ملته وإن الظفر واللحم، وهراؤهم سيبقيها معززة مكرمة بين أهلها مع أنها حادت عن العرف والمألوف”.

 

-الوضع الآن مختلف تماماً.

 

كلهم في الخارج بما فيهم الجيران يجتمعون وسط النخوات والسكاكين، والجميع ضد سمر المختبئة وحيدة في غرفتها على بعد باب واحد فقط. فإلى أين المفر!؟

ترفع الأم ذراعيها متوسلة لهم، تحاول منع الجريمة، لكن عبثاً؛ فشرفهم المدنس لن يتطهر حسب رأيهم إلا بتمزيق جسد سمر أمام الملأ، وسيغسلون عارهم بشفرة المشرط لا سواها وهذا بالفعل ما حصل.

تلك كانت الحادثة الأولى، ولن تكون عابرة في ذاكرة كل من شهدها، تفاصيلها ظلت محفورةً في أعماقي طيلةَ ثلاثين عاماً الماضية من عمر الحادثة، ففيها واجهت التناقض الأهم في حياتي وعلمت أن صراعاً نفسياً وأخلاقياً ومجتمعياً سيرافقنا ما حيينا -نحن نساء الجبل- بين ما نريد وما يجب، وهو الفرق الشاسع ذاته بين الجريمة والشرف.

فسمر الطالبة الجامعية غير المأسوف عليها بنظر مجتمعها ومحيطها، يراها الشرع والقانون ضحية بلا خطيئة.

أما عامر الطفل ذو العشر سنوات من قتل عن سبق وإصرار وفق ما ورد في محضر الجريمة، هو رجل يستحق الشوارب على وجهه يستحق هذا الاستقبال الحافل بالجوفيات والقهوة المرة (وتسلم يمينك يا عمي) بعد ستة أشهر فقط قضاها بطلاً في سجن الأحداث.

أما نبيل “القاتل الحقيقي” من سيدفع الثمن الباهظ من تأنيب ضمير لا ينتهي؛ فقد دفن مستقبله وسعادته مع أخته سمر في قبر واحد، ارتاحت هي بموتها وتركته يتعذب هو بحياته.

أما هالة لعنتها فقد بقيت تطال كل من سمع بالقصة وبارك الجريمة

أتذكر جيداً كيف ألقى الجميع باللوم على سمر وحدها في هذه المأساة، فهي التي  بدلت أهلها وتقاليدهم بالغريب. وأنا على يقين أنهم كلهم مثلي كانوا يكابرون.

سمعت مرةً إحداهن تقول لجدتي إن سمر تستاهل، ولا بديل عن قتلها، حتى لا تتكرر القصة  -لا قدر الله- واستحضرت مثلاً لا علاقةَ له بالموضوع عن الكي وآخر الداء، وأشارت بوجوب أن يصدر المشايخ “حرماً ” يمنع الجامعةَ عن البنات.

داريت وجهي عنها ورغبت بالضحك والبكاء معاً،

 

هل تعلمين لماذا رفضت ابنتي عبير إكمال دراستها؟

 

عدت بنظري صوبها لأسمع السبب.

“ليس لأن علاماتها لا تسمح بل لأن الحياة الجامعيةَ لا تناسبنا وأن البنات بالشام يتعلمن التدخين -الله يجيرنا- حتى أن هناك من رأى لميس ابنةَ الجيران تدخن بالخفاء بل وتحمل باكيت الدخان في حقيبتها والمشكلة أن كل من تذهب إلى الجامعة تفعل ذلك”

ردت جدتي مباشرةً وبصوتٍ عالٍ -الله يسترنا-

وهنا واجهت التناقض الثاني، فما علاقة السترة بالسيجارة!؟

صارت قعدات النساء تثير فضولي أردت أن أفهم منهن كيف للمرأة أن تكون عدوةً لإمراةٍ مثلها!

من أين لنا كل تلك القسوة في جلد ذواتنا ونحن نساير مجتمعاً ذكورياً أباً عن جد، يرانا من لحظة ولادتنا صنفاً غير مرغوب فيه بكثير من الأحيان.

 

بين العيب والطلاق

 

لتعود السيرة إلى السيجارة ذاتها، في تلك الفترة تطلقت جهينة زوجة مفيد بسبب خلافاتهم الكثيرة وآخرها عندما اتهمتها حماتها بالتدخين.

“تركت أربعةَ أبناء يبكون خلفها، كبيرهم في الصف الخامس، جمعت أغراضها واتصلت بأبيها وأخيها ركبت معهم بالسيارة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السلام على مفيد وأهله وذهبت على غير رجعة”.

هذا ما سمعته بالضبط في صبحية تجمع الجارات عند أمي تحت العريشة.

تمر الأيام وتظل جهينة مصرة على الطلاق وكان لها ماتريد. لكنها لم تنقطع أبداً عن أبنائها تزورهم دائماً في بيت المختار، المكان الوحيد الذي تم الاتفاق عليه كحل وسط من قبل الطرفين.

تمر مسرعة حاملة كيساً كبيراً ملوناً يصعب عليها ربط أطرافه، وأنا أمعن النظر بكل تفاصيلها وحركاتها وعندما تقترب من بيتنا أختبئ خلف البوابة كي لا تراني، وقبل المساء تعود إلى الساحة منهكة تنتظر الباص… وتنوح…

لا أعرف إلى اليوم ما الذي سمعته طفلة مثلي عن معنى مطلقة، لتتحمل مراقبةَ استمرت طيلةَ النهار أمام تناقض جديد يربط بين العيب والطلاق هذه المرة.

إلا أن الصورة المشكوك في أمرها لم تتلاشَ من مخيلتي، إلا عندما كبرت وأصبح أبناء جهينة الأربعة خيرة من أنجبت القرية، بالعلم والأخلاق وبفضل أمهم وحدها التي التزمت تربيتهم عند زواج أبيهم واستغنائه عنهم.

فقد صنعت جهينة “المطلقة” إنجازاً عجزت عنه أسر كثيرة اختارت زواجاً فاشلاً مستمراً، أقله على عين الناس، ولو كان على حساب سعادة الأولاد أنفسهم والأبوين في آنٍ معاً.

هي إذاً تناقضات كثيرة مصيرية مرة، وسطحية مرات أخرى، تواجهنا في كل لحظة وتجعل حياتنا مثلها مليئة بالتناقض.

تحت ظلّ مجتمع منفتح ومغلق في آنٍ معاً وحكم جبل يتيح لنا الكثير -نحن النساء- نتعلم ونسافر. نحلق ونطير وهو يراقب من بعيد ونحسبه يبتسم ويتوعد..

..خيطك مربوط بكفي..

“نحن نساء الجبل- بين ما نريد وما يجب،

وهو الفرق الشاسع ذاته بين الجريمة والشرف”

غصينة قطيش