الوشم والبيرسنغ.. من نمطية الصورة لنساء الشرقية إلى”الموضة”

كتابة :
محمود عبد اللطيف

“تاتو”

 

تضحك خديجة حين أطالعها بصور نساء وشمن أشكال غريبة على أجسادهن بعد أن صار اسم الوشم “تاتو”، كما تثير أشكال “البيرسنغ”، وأماكن وضعه من قبل الفتيات استغرابها لدرجة إنها تشهق حين تجد أن فتيات يستخدمن هذا النوع من الحلي في أماكن غريبة بالنسبة لها مثل الشفة أو اللسان أو الصرة ولا تستغرب إن قلت لها إن هناك من يضعنه في أماكن أكثر حساسية من أجسادهن، فالمرأة التي اقتربت من نهاية العقد الثامن من عمرها تعرف بأن الوشم كان له أسبابه وموسمه ومرحلة عمرية مبكرة، في حين أن ما يصطلح على تسميته بـ “البيرسنج”، كان حلياً توضع للأنف دون سواه من مناطق الجسد، ولم تسمع في يوم أنه استخدم لمثل هذه الأغراض.

 

المرأة العجوز التي تقطن في ريف دمشق الغربي منذ ما قبل بداية الحرب نتيجة لنزوحها الاقتصادي وأسرتها نتيجة لطول سنوات الجفاف التي ضربت المنطقة الشرقية، تروي في حديثها لـ “موج”، بأنها كانت تخضع لسطوة عيون النساء اللواتي يستغربن وشوم وجهها بالكثير من الخوف والخجل، وتقول “كنت أحس بأنهن يقرفن مني ويعتبرن أن الخطوط الخضراء التي في وجهي دليل على أني من مستوى اجتماعي أقل، كانت هذه الوشوم دليل على أني من المنطقة الشرقية بالنسبة لسكان مدينة دمشق، ودليل على أني من الريف في مدينتي الحسكة ودير الزور”، فأهل المدن ينظرون إلى “الشوايا”، بالكثير من الاستخفاف والاحتقار أحياناً، وهناك ما يميزنا من وشوم أو أزياء يعتبرها البعض مخجلة بحقها.

مع الكثير من شقاوة أحفادها، تقص خديجة أن للوشم كان مواسم محددة تبدأ مع الحصاد أو قطاف القطن، فتطوف على القرى نساء من الغجر الذين يعرفون لدى السوريين باسم “النَوَر”، أو “القرباط”، وكانت المرأة التي تقوم بعملية الوشم تحصل على تسمية “دكاكة”، نسبة إلى ممارستها “الدك”، وهي كلمة الدق بعد استبدال القاف بالكاف كما هو متداول في لهجة أبناء الشرق السوري وبعض المناطق الأخرى، وتحمل “الدكاكة”، عدداً من الأبر المختلفة المقاسات يتناسب كل منها مع مكان الوشم، فالأبر الدقيقة الرأس لوشم اللثة أو تحت الجفن، والأكبر مقاساً لوشم منطقة “الدقن والخدود”، ثم يكبر مقاس الأبرة للوشم على اليد وفي مختلف مواضعها، كما إن الوشم على الصدر يحتاج لأبرة من مقاس متوسط كي لا تكون مؤذية، ولم يكن ثمة أي نوع من التخدير أثناء عملية الوشم التي تعتمد على الوخز السريع والمتكرر من قبل “الدكاكة”، حتى تتم الرسم الذي تختاره أم الفتاة التي ستحظى بالوشم، وعملياً كانت الدكاكة تعتمد على مزج الكحل العربي بـ حليب الماعز أو على مزج مسحوق الفحم أو بقايا الحط المحترق مع الحليب، وقبل أن تبدأ بعملية الوشم تكون قد رسمت ما تريد وشمه بقلم أزرق أو قلم كحل، ثم تبدأ العملية المؤلمة التي من شأنها أن تنتهي برسم جميل يزين أو يميز الفتاة عن سواها.

الوشم عادة ما يكون مختلف من قبيلة لأخرى وهو عادة متوارثة منذ أن كانت قبائل البدو تغير على بعضها، ثم استقرت هذه القبائل في مناطق الريف التي يسكنها من يطلق عليهم مسمى “الشوايا”، وهذه التسمية جاءت وفقاً لـ ابن خلدون في مقدمته بسبب تربيتهم الشياه، كما تقول بعض المصادر بأنها مشتقة من اللفظ السرياني “شاويو”، والتي تعني سكان منطقة النهر.

عادةً ما يطلق مسميات دلالية على نوع الوشم المراد رسمه من قبل ذوي الفتاة، إذ أن والدة الفتاة هي من تحدد الوشم الذي سيزيد من جمال ابنتها التي لا تمتلك القدرة أو الحق في الاختيار لصغر سنها، ويسمى الوشم الذي يقع تحت الشفة السفلى منتصف الفم بـ “الرثمة”، فيما يسمى الوشم تحت الشفة السفلى من الجهة اليمنى “الدبيب”، في حين أن الوشم الذي يمتد من أسفل منتصف الفم وحتى أول الدقن فيسمى “السيالة“.

ويسمى الوشم تحت الجفن بـ “كحل القطا”، وعلى الخد يتم وشم “هلال ونقطة”، في حين أن الوشم ما بين الحاجبين يسمى بـ “هلال”، والدوائر على الخد تعرف باسم “الردعة”، أما تطريز اليد بوشم عريض مؤلف من مجموعة نقوش، أو خطوط نقوش طولانية متوازية، فيسمى بـ “وسادة ابن العم”، وهو اسم يطلق أيضاً على الوشم المطرز للبطن، ومرجع هذا الاسم أن النساء يهيئن وسادة من أجسادهن لزوج المستقبل، وفي حين أن النساء كنا ينقشن أساور على المعصم، فإن النقوش حول الساق كانت تسمى “الحجول”، ويمكن النقش على مناطق أخرى تضيف جمالية لجسد المرأة كالعنق والصدر، ونادراً على النهدين.

تستخدم بعض القبائل الكردية المنتشرة في شمال سورية والعراق، حبراً خاصاً للوشم يدخل في تركيبه “حليب الأم”، بدلاً من حليب المواشي، كما كانت تستخدم مفرزات “مرارة الحيوان”، وغالباً ما كانت نساء القبيلة الواحدة تستخدم نقشاً موحداً لوشومهن، وهي رسومات ذات أبعاد “ميثيولوجية”، ترتبط بالحضارات القديمة التي كانت في المنطقة، ومن هذه الرموز “الصليب الآري السومري”، وهو صليب معقوف تتوسطه الشمس و يدور باتجاه عقارب الساعة، كما يستخدم “الصليب المتساوي الأضلاع”، في وشوم النساء الكرديات، ويدل في تاريخ الحضارات القديمة على الاتجاهات الأربعة لكوكب الأرض، وعلى عناصر الكون الأربعة (التراب و الهواء و النار و الماء)، كما تستخدم نقوش الشمس و أفعى “شيخ مند

ترجع بعض مصادر التاريخ ظهور الوشم للمرة الأولى إلى الحضارة الفرعونية، وتجمع المقالات والأبحاث المنشورة في هذا الصدد على أن الفراعنة استخدموه للوقاية من الأرواح الشريرة بوشم الجسد بـ “عين حورتس”، و”زهرة اللوتس”، للوقاية من الأمراض الجنسية وأثناء الولادة عند المرأة، ولتمييز الراقصات بوشمهن برمز الآلهة “حتحور”، التي كانت ربة للرقص والموسيقا، كما كانت تستخدم الوشوم بأشكال الحيوانات ورموز الآلهة القوية على منطقة “الزند”، أو “الساعد” عند الرجال تكنياً بقوتهم، وهو تقليد وصل إلى شعوب المنطقة قاطبةً بما في ذلك القبائل العربية والبدو في سورية، إذ يدرج وشم وجوه للحيوانات الكاسرة أو الطيور الجارحة أو السيوف على منطقة “الزند”، عند الرجال.


 البيرسنغ.. من أين جاء

 

في إحدى الأغاني العراقية المتوارثة يقول المغني “لابس وردة وخزّامة وبالوسط عران”، وهي ثلاث مسميات لقطعة من الحلي توضع في الأنف عند نساء البدو والريف الشرقي من سورية، والأولى هي “الوردة”، وغالبا ما تكون حلقاً يأخذ شكل الوردة الذي يوضع في قلبها قطعة من الحجر الكريم تحولت مع الزمن إلى “خرزة”، ويلبس “الوردة”، الفتاة العزباء بوضعه على الأنف من جهة اليمين، وغالباً ما تكون من أسرة متوسطة الحال مادياً، أما “الخزّامة”، فهي أكبر حجماً من “الوردة”، تتدلى مثل “الحلق”، من أنف الفتاة وغالباً ما تلبسها العزباء على الجهة اليسرى والمتزوجة على الجهة اليمنى، وهذا النوع من الحلي يشير إلى حالة مادية أكثر من المتوسطة أما “العران”، فهو يشبه ما سبقه من الوردة والخزامة إلا أنه أكبر حجماً وبشكل يصل حد المبالغة فيه، ويشير إلى أن من ترتديه هي من الثريات ويوصفن بـ “بنات الشيوخ”، أي من نساء شيخ القبيلة المقربات (إبنة شيخ – زوجة شيخ)، ولا ترتديه إلا المتزوجات ويضعنه غالباً على الجهة اليمنى من الأنف، وكانت من ترتدي هذا النوع من الحلي تقابل بالكثير من الاستغراب والاستهجان إذا زارت المدينة وهي ترتديه، فهو من العلامات الدالة على تحدرها من الريف المنظور له حتى وقتنا هذا على أنه من الأقل تعليماً وثقافة، ويوسم أبناءه بصورة نمطية عملت وسائل الإعلام بما فيها الدراما على تأصيل وجودها، فابن المنطقة الشرقية غالباً ما يكون في دور “الغشيم”، ضمن هذه الأعمال إلا ما ندر.

 

لا يُعرف زمناً أولاً لظهور هذا النوع من الحلي إلا أن بعض المصادر تربط الأمر بتاريخ ظهور وجود ثقب في الأذن أو الأنف، فأقدم ثقب في الأذن وجد على جسد مومياء مصرية تعود لـ 5000 سنة قبل الميلاد، أما ثقب الأنف فإن أقدم تواجد له وجد على أنف مومياء أخرى تعود لـ 1500 سنة قبل الميلاد، ولم يؤكد إذا ما كانت هذه الثقوب لاستخدام الأقراط في الأذن أو الأنف.

 

“تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع صوت وصورة وصدى الذي تنفذه مَوج 2021”

يعتبرن أن الخطوط الخضراء التي في وجهي

دليل على أني من مستوى اجتماعي أقل

خديجة