الألقاب في القرى .. تورث أيضاً

كتابة :
شذى يوسف

نسمع الكثير من الألقاب والأسماء الغريبة في مجتمعاتنا الصغيرة (الأرياف والبلدات)، وبشكل أقل في المدن وذلك بسبب الاتساع واختلاف ثقافة “الجيرة” ونمط وشكل العلاقات  بين الناس. ولو حاولت استكشاف معاني ودلالات هذه الألقاب، وسبب إطلاقها على أصحابها، ستجد أن دافعها كان غالباً السخرية من شخص ما بسبب حادثة أو موقف مر فيه، وقد يعود لزمن بعيد وسنين طويلة، ولكن اللقب بقى معه، ولم يسعفه مرور الزمن للتخلص منه. 

 نحن  أبناء هذه الأماكن ساهمنا في تداول الألقاب واستمرارها بقصد أو بغير قصد، وقد تسبب ذلك  بالإهانة أو بالحد الأدنى مضايقة صاحبها. لكن الغريب في الأمر، تصالح بعض أصحابها  مع ألقابهم، فحالة التنمر تلك تحولت إلى مسألة طبيعية لم تعد تؤذي مشاعر صاحبها، لدرجة قد تصل للمشاركة بها تجاه نفسه وتجاه الآخرين.

من جهة أخرى نجد أشخاصاً أوصلهم تنمر المحيط للمعاناة من أذيةٍ نفسية وجسدية، وبتفكير بسيط في المشكلة، يمكن أن نتوقع حجم الأثر الذي تركه التنمر على هؤلاء الأشخاص لدرجة، إما اعتادوا على الإهانة أو فقدوا الشعور بها، أو وصلوا لمرحلة الأذى النفسي والجسدي وانتهى الأمر.

في طفولتي كانت عطلة الصيف وقضاء الإجازة مع عائلتي في القرية أجمل أوقاتي، فترة كنت انتظرها من عام إلى عام. هنالك حفظت أسماء وألقاباً لرجال ونساء عدة من أبناء القرية، وكنت أتشارك مع إخوتي ورفاقي في مناداتهم بها مترافقاً مع السخرية أحياناً، وكان تقبلهم لذلك يثير استغرابنا.

قصة “شتاء”

أذكره جيداً، بطقمه السفاري الفاتح اللون، رجل متوسط القامة، ذو بشرة فاتحة، بعينين زرقاوين، “الشتاء” لقبٌ لازمه منذ طفولته “المنحوسة” كما يقال عنها، أرسله والده للمدرسة، أملاً بأن يصبح أول طبيب في قريتهم الجبلية في الساحل السوري، وذات يومٍ شتويّ، زار مندوب تربوي مدرسة سليمان (اسم مستعار) وتوجه له بسؤال ما معنى الشتاء؟، فكان تعريف سليمان له، الشتاء: هو حيوان أليف نستفيد من لحمه وبيضه وريشه.

ومنذ ذلك اليوم، أصبح لقب الطفل سليمان (الشتاء)، وصار أبناؤُه أبناء الشتاء وإخوته وزوجته ومنزله كلها متبوعة ب “الشتاء”، حتى في وفاته العام الماضي، كُتب على ورقة نعوته “توفى الشتاء “، بغية تعريف الناس به وتميزه عن من قد يحمل اسماً مشابهاً.

ابن الأخرس

 

لم ينجُ أبناء القرى والبلدات، ممن يعانون من إعاقات أو أمراضاَ معينة، من سخرية وتنمر الجيران أو السكان من إعاقتهم، وقد يكونوا أناسٌ عاديون أصيبوا بمرض ما، سبب لهم إعاقة أو ربما خلقت المشكلة معهم منذ الولادة، فهذا لم يمنع من مناداتهم: بـ”الأخرس”، “الأكتع”، “الأفصع”، “الأطرش” وغيرها من الألقاب  التي باتت عادية ومتداولة بين سكان هذه المجتمعات الصغيرة ومهما تقدموا وحققوا هؤلاء من إنجازات وقاموا بأعمال مفيدة خيرة لأبناء قراهم وبلداتهم ستبقى هذه الألقاب تلازمهم، فما زلت أذكر ذاك المهندس المغترب الذي لم يبخل بتقديم يد العون لكثيرين من أبناء قريته المحتاجين وبقي يُنادى “بابن الأخرس” وما يزال معلم المدرسة الابتدائية “جار الأعمى”.

التنمر الذي أدى لجريمة

لسوء حظ “حسن” المولود في العام 1939، أن ثعباناَ لدغ والدته في أحد شهور حملها فيه فكانت سبباً لولادته مصاباً بمرضٍ عقليّ حسب التشخيص الطبي.

كبُر “حسن” ووصل لمرحلة المراهقة، فأحبَ فتاةَ من قرية مجاورة، وكان كل فجر يتجه لزيارة قريتها، عله يحظى بقبولها وتبادله حباً ملأ قلبه، الحب الذي يحمله لها، دفعه لوضع سائل سام من نبات بريّ في عينيه كي يلفت انتباه الصبية وتشعر باهتمامه بها، حسب الرواية.

القصة لم تقف هنا، بل بدأت موجة تنمر وسخرية  كبيرة من أبناء القرية، لدرجة أغضبت أخا حسن وأخرجته عن صوابه، فلجأ لعقوبة وحشية أفقدت حسن رجولته، والتي روى لنا أحد أبناء القرية  تفاصيلها القاسية التي لم يستطيع حتى اليوم محوها من ذاكرته.

فقال: “كان عمري عشر سنوات، المشهد كان  فظيعاً، تسللت بين جموع الرجال لأقف في النسق الأول، وأشاهد كيف قُيدت يدا حسن وقدماه، عار من ملابسه حيث تم تنفيذ عقوبة وصلت لدرجة “الجريمة” أفقدت حسن رجولته أمام أبناء القرية التي لم يحرك أحد منهم ساكناً، فهم من دفع لارتكاب هذه الجريمة بسبب تنمر وسخرية أفقدت الأخ صوابه، قبل أن تفقد حسن كرامته وعزة نفسه، فصار يلقب منذ ذلك الوقت بـ”المخصي”

اليوم ما يزال حسن حياً، متعايشاً مع لقبه، ولحسن الحظ، لا يوجد وريثاً للقب الذي حمله وتكنى به لسنوات طوال.

رأي مختص

تعزي الاختصاصية النفسية ليندا باكير، حالة تقبل التنمر السائدة في القرى بشكل خاص، لدرجة عدم تقدير الذات، فنحن نجد شخصاً متقبل للقبه وإن كان سيئاً، قد وصل لحالة تصديق اللقب والشعور بامتلاكه لدرجة تصل حد الدفاع عنه في بعض الأحيان.

إن انتشار سياسة الغالب والمغلوب في مجتمعنا، وحقيقة كون الإنسان بطبيعته هش غير محصن، ويعيش في دائرة حماية لنفسه قد تكون سهلة الاختراق، يضاف إلى ذلك، البيئة المحيطة (كالعائلة مثلاً) غير الداعمة وربما مشاركة في التنمر عليه عن قصد أو من باب الفكاهة.

يتمتع أبناء الريف بنمط علاقات خاصة، قد تفسح المجال لشخص صاحب نفوذ أن يمارس تسلطه على شخص ضعيف وتجعل من الثاني مرمى لتنمر الأول وسخريته، وهنا يبتلع الموس على حديه (كما يقال) ، ويتقبل اللقب الذي أطلق عليه وعلى مضض، بدل أن يسعى الشخص المتنَمَر عليه للتخلص من اللقب المؤذي أو المهين الذي أطلق عليه، يتعايش معه، إما لحيلة يفتقدها، أو خوفاً من محيط قد ينبَذه بسبب سطوة الشخص صاحب النفوذ وهيمنته على المجتمع الذي يعيشون فيه.

كيف نقف في وجه سلوكيات تجعل من السخرية والتنمر نمط حياة وشكل لتصرفات نقوم فيها بوعي أو بغيروعي، ممارسات لا يدرك أحد إلى أي مدى يمكن أن يصل أذاها المعنوي والنفسي والجسدي، وكيف يمكن أن نقدم الدعم للشخص الذي يتأقلم مع حالة التنمر التي يتعرض لها، ليرفض هذا الواقع وينتصر لنفسه ويتمتع بأبسط حق إنساني وهو العيش باحترام وكرامة.

لن تغيب البسمة..

في نقاش حول الموضوع مع صديقة لي قالت ممازحة: “يا عزيزتي لا “تحبكيها” التنمر أصبح من يومياتنا، يضفي عليها بعضاً من المرح، يخفف من ثقل وتعب هالأيام، فحتى فيروز التي غنت لأجمل ما في الحياة بأرق التعابير والمشاعر، وعلمتنا الحب بأروع صوره، ذات مرة تنمرت هي والرحابنة على زوجة أحد المسافرين المرافقين لهم  في “البوسطة ” التي كانت تنقلهم لضيعة تنورين قائلة: ولووووو شو بشعة مرتو..”

حقيقة كون الإنسان بطبيعته هش غير محصن، يعيش في دائرة

حماية لنفسه قد تكون سهلة الاختراق

شذى يوسف