أنا من هناك

كتابة :
أنوار العبدالله

حزيران  2001م 

 

في باحةِ المدرسة الابتدائية اجتمعنا نناقش أسئلة الامتحان ونودع بعضنا

كنا نتحدث عما سنفعل، وماذا سنجلب، وإلى أين سنذهب بلهفة تمتزج بنشوة النهايات والشوق لأيام قادمة ليست ببعيدة ولكنها تمثل المستقبل القريب لمخيلة أطفال كان أقصى خيالهم آنذاك هو حدود العالم التي رسموها كلٌّ حسب ماتيسر له من الصدف

قال جعفر: ” أنا وخيي بدنا نروح على ضيعة بيي بطرطوس، وأخواتي البنات مع أمي على جبلة”

وأكمل ضاحكاً:” مع انو ضيعة أمي أحلى بس بالله ماني رايح طرطوسي أبيحبوني”.

وضحكنا جميعاً، وسط الضحك تعالت إشارة استفهام في رأسي لماذا طرطوسي لايحبونه!؟

سؤال اكتشفت إجابته لاحقاً، فمن بين الثنائيات المبنية على الصراعات الوهمية ثنائية طرطوسي-لاذقاني كما حين نقول برشلوني-ريالي.

أكملَ اسماعيل الحديث وقال بحزم: “أكيد بدي أروح على ضيعتنا، موسم الكرز قرب وأنا وأمي وأخوتي بدنا نساعد بيت جدي ونعمل الموني ونرجع قبل المدرسة بكم يوم”. 

كان اسماعيل متحيزاً لضيعته وكثير الحديث عن جمالها وبساتينها وعن مغامراته الصيفية في بساتين الكرز والرمان و جمال “العاصي” الذي تعلم السباحة فيه الصيف الماضي، كنت أغبطه وأشعر بالغيرة قليلاً ليسَ لأنه تعلم السباحة قبلي فقط بل لكونه يقضي عطلته في هذه القطعة من الجنة في ريف محافظة إدلب كما كان يحب أن يسميها.

وقفتُ أترقبُ حديثهم بصمت أطبق عليّ وعقد لساني، انسحبتُ بخفة من بينهم ودوامة الأسئلة تدور في رأسي. 

لماذا ليس لدي ضيعة أزورها صيفاً!؟

أين قريتنا!؟

هل هذه قريتي!؟

ولكن كيف ذلك وأهل البلدة يدعوننا بـ “النازحين”. 

لماذا لنا تجمع خاص بنا!؟ و هناك مدرسة للنازحين وأخرى “للفلاحين” (سكان البلدة الأصليين كما يطلق عليهم).

غدت الأسئلة في رأسي خلايا سريعة الانقسام تتكاثر بسرعة حتى وجدت عالمي الصغير ينقسم، والبلدة التي أرى حدود العالم على أطرافها تنقسم، مع الوقت أدركت بأن بضعة أمتار وشارع واحد فقط جعلنا قسمين: “نحن” و”هم”.

حتى إدراكي لحقيقة هذا الانقسام المكاني-الاجتماعي لم يعنيني، ما كان يعنيني حقاً ماهو شكل قريتنا؟ 

وكيف ستكون عطلتي الصيفية لو كان بوسعي الذهاب!؟

ماذا كان أبي سيزرع في أرضنا لو كان “هناك” وهو المولع بالزراعة وحياة الفلاحين؟.

بقي “هناك” محور اهتمامي، ألتقط من حديث جدتي صوراً أحاول تركيبها، أتخيل دار جدي الحجرية وكرم العنب الممتد أمامها وأشجار الزيتون المتناثرة على أطرافها وموقد التنور الذي مازالت جدتي تفتقده مع كل رغيف خبز تأكله من فرن الحي الحديث.

جدتي لديها ذاكرة مشبعة بتفاصيل “أيام الجولان” تصف لنا بدقة بيتها “هناك” طبقها المفضل وأعمالها اليومية، أعراسهم وخاصة العرس الذي غنى فيه فهد بلان.

هذه الذكريات وغيرها رسمت ملامح ذاكرة طفولية لاتتجاوز العشر سنوات، بتُّ أردّد كل ما أسمعه عن “هناك” وكأني أحاول نقشه في جدران ذاكرتي، إن الذاكرة البشرية أشبه بغرفة جدرانها بيضاء مسطحة تمتد إلى مالانهاية نلونها ونرسمها ونحفرها بأنفسنا مع كل موقف وحدث وحتى حديث عابر ليشكل كل منا ذاكرته الخاصة ولنكون جزءاً من الذاكرة الجمعية، الذاكرة التي كان من المفترض أن تجمعنا كأبناء مكان واحد وتقدمنا لغيرنا لكنها قد اندثرت مع موجة الشتات التي حلت بنا في نكسة حزيران 1967م، هذا التاريخ الذي يصاغ في الكتب ويذاع كل عام في نشرات الأخبار على أنه احتلال إسرائيلي لهضبة الجولان السورية وتهجير أهله، نقطة انتهى الخبر…

أكاد أجزمُ أن لا أحداً من السوريين أو العرب يعرف أكثر من ذلك إلا بجهود فردية للمعرفة أو بمحض الصدفة، تغييب إعلامي واضح ويثير الدهشة لقضيتنا.

لطالما بحثت في وسائل الإعلام، عنا و عن ملامحنا، لكنني لم أجد شيئاً. والمسلسل الوحيد اليتيم الذي كان يحكي قصة النزوح (رجال الحسم 2009م) لم يكن بلهجتنا فكان بارداً شاحباً غريباً.

وكأن حزيران طمسَ معالم ماقبله، منحنا ورقة واحدة كتب أقصى زاويتها اليمنى إلى الأعلى “نازح”، الكلمة التي أمقت.


حزيران 2010م

 

كان عامي الأول في الجامعة، أول شرفة أطل منها على العالم الأوسع، أول تجاوز لحدود البلدة التي نشأت بها وأول تماسٍ مباشر مع الآخر، لم أعهد قبلها العالم بهذا التنوع.

راقت لي اللهجات المختلفة والعادات الغريبة التي تعرفت إليها مع كل صديق جديد، كل منا كان رسولاً مبعوثاً ليعرِّفَ بانتمائه، فأخذت على عاتقي أن أعرف بنفسي أصدق تعريف.

في حديقة الجامعة التقيت بإحدى صديقاتي بصحبة فتاة تعرفت إليها حديثاً فجمعنا سلام وحديث عابر، قالت لي الفتاة: أنا من حمص.

فقلت: وأنا من الجولان.

حدقت بي باستهجان ثم قالت: عفواً! بس ليش انتي محجبة!؟ بعرف بنات الجولان مابيتحجبوا!

ضحكت من قلبي عندما أدركت أين الخلل، جزء كبير من السوريين لايعرفون بأن الجولان يضم تنوعاً طائفياً (دروز- علويون – سنة) وتنوعاً عرقياً (عرب – تركمان – شركس) وأننا من أصول اجتماعية متباينة (مدنية – فلاحية – بدوية). 

لا ألومهم في ذلك لأن الصورة التي تكرست عن الجولان خلال الخمسين عام الماضية انحسرت بأهل القرى المحتلة في الجولان والذين هم من أبناء الطائفتين الدرزية والعلوية، ويقطنون في القرى الست التي ما زالت مأهولة إلى يومنا هذا، فالصورة التي نقلها الإعلام ومازال ينقلها عززت هذه النمطية لدى السوريين وتكاد تكون ألغت وجود باقي مكونات المجتمع الجولاني تدريجياً.

مع تكرار مواقف شبيهة بتُّ مستعدة لأي سؤال طارئ أو تصحيح لمعلومة أو تعريف بأي شيء يخصنا، ولكن أكثر المواقف طرافة عندما التقيت بأحدهم وبعد أن قدمت نفسي “أنا من الجولان”

قال لي: “أوف! الله يعينك صعبة والله كل ايمت بترجعي عالجولان!؟ ووين ساكنة بالمدينة الجامعية!؟”

أجبته: “أنا جولانية من 67 برا الجولان.”

قال: “أي كنتي قولي “نازحة” فكرتك من الطلاب الي عم يجوا من الجولان ليدرسوا هون”.

لا أُنكر أنه استفزني حينها فقلت له: وأنت أيضاً “نازح” من اللاذقية، فحسب قولك إن  والدك جاء إلى دمشق في العام 1995 وبالتالي فأنتم نازحون أيضاَ.


حزيران 2020م

 

عشر سنوات من حربٍ ظالمة غيرت معها ملامح كل شيء، دفنت مفاهيم ومبادئ وأفكار وتفتحت أخرى، لم تعد كلمة “نازح” بعينها دلالة على جماعة محددة فهنا نازح من حمص وهناك نازح من غوطة دمشق وعلى الجانب الآخر من هذه المدينة تجمع لنازحي دير الزور.

توزعت القسوة على الجميع، تجرعنا مرارتها بالتساوي، أن تُجبرَ على ترك بيتك وحارتك وذكرياتك المتناثرة في المكان الذي ألفته لسنوات فأنت فعلياً تسلخ من جلدك حياً ليلبسوك جلداً آخر وتجبر على حياة ولقب لم تختره، ما إن تنتقل لمكانك الجديد حتى تجد القوالب التي جهزوها لك بانتظارك.

تغيرت ملامح حزيران عندي، لم يعد الذكرى الخاصة بـ “هناك”، لم يعد يعنيني، أصبح هنا كـ “هناك” وأي مكان أجد فيه الحب والرحمة هو “هناك”.

أي مكان أجد فيه الحب والرحمة

هو “هناك”.

أنوار العبدالله