جميع اللهجات المتنوعة في سوريا أقرب إلى القلب من اللهجة البيضاء التي أتكلم بها أنا وكثيرون ممَّن لا يسكنون مناطقهم الأصلية، فهي أشبه ما تكون بلهجة “بالأبيض والأسود”، بلا ألوان، ولا هوية لها، ولا توحي بأي انتماء، إنما تشي بتخلٍ جاء نتيجة السكن لسنوات طويلة بعيداً عن المناطق الأم لتلك اللهجات.
لماذا أغضب؟
الجواب ليس صعباً أبداً. قلقي على صغيري وحبي له هما ما يجعلاني ألومه، وأحاول مراراً أن أجبره على تبني لهجتي الباهتة!
طفولتي مليئة بصورٍ لأطفال تعرضوا لسخرية قاسية، لأنهم كانوا يتكلمون بلهجاتهم الأم، وترك ذلك أثراً كبيراً على شخصيات بعضهم. في المدرسة، ما زلت أذكر ذلك الطفل المتفوق ذا العشرة أعوام الذي كان يتكلم باللغة الفصحى، وبدأ يختصر كثيراً من أحاديثه مع أقرانه حتى لا تهتز صورته أمامهم إذا ما زل لسانه بمفردة مستخدمة في قريته، ولم يسمعوها من قبل، فيصير ضحية سخريتهم الجارحة.
وما زلت أذكر تلك الشابة المراهقة ذات الضفائر الذهبية، والتي كانت تجلس في المقعد الأخير من الصف، رافضة تكوين صداقات مع أحد، خشية من سخرية بدأت مع جملة قالتها إحدى فتيات الصف عندما سمعتها تتحدث للمرة الأولى: “شوفوا كيف كلامها متل البدو”.
الأمثلة كثيرة، تبدأ بتصنيف الأشخاص حسب لهجاتهم، وتنتهي برفض أي شيء مختلف، بعد إطلاق صفات جارحة على مَن ينطق تلك اللهجات المختلفة: “عم بيتبوجئ”، “بيمط حكيو”، “بيكسر الكلام”، “بيضم الأحرف”، “بيرقق الكلام”، “بيضخم الأحرف”، إلخ. وهكذا تصبح اللهجة لدى البعض مرتبطة بجملة من الصفات السلبية والصور الذهنية المسبقة.
اللهجة البيضاء كانت الحل
يستخدم كثيرٌ من الأشخاص اللهجة البيضاء في محاولةٍ لجعل أحاديثهم مفهومة، وأفكارهم واضحة تصل بسرعة أكبر إلى الآخرين، إلا أنهم يحتفظون بلهجاتهم الأصلية في التواصل والأحاديث مع أهلهم، ولا ضير في أن يُعرّفوا مَن حولهم على هذه اللهجة خلال الأوقات غير الرسمية، لأنها جزء من هويتهم وهم متصالحون مع أنفسهم، ولن تهزهم جملة جارحة مسيئة صادرة من شخص غير مسؤول.
من جهة أخرى، يتحفظ البعض عن استخدام لهجته الأصلية، فيتكلم بلهجة أخرى أمام الآخرين ويجعل للهجته خصوصية ضيقة لا تتجاوز أهله، خصوصية قد تصل إلى درجة إنكاره أمام الآخرين أنه يتكلم بتلك اللهجة. قد يعود ذلك إلى ضعف في الشخصية وقلة ثقة بالنفس، وربما لتخفيف إزعاج قد يصل إلى مسمعه من شخص اعتاد ألا يفكر قبل أن يلقي مزحة سخيفة قد تتسبب بأذى نفسي وإحراج أمام الناس.
تختلط لهجات بعض الأشخاص نتيجة التنقل وتنوع أماكن إقامتهم فتبدو اللهجة البيضاء التي يتحدثون بها وكأنها لهجتهم الأصلية.
التأثر بالجيرة والجوار
تتنوع اللهجات وتختلف في المناطق والبلدات والقرى وفقاً للعديد من العوامل منها الطبيعة الجغرافية، والحدود مع الدول والمدن المجاورة والتأثر بلهجاتهم، وقد تكون متأثرة باحتلال مر في زمن ما، أو بوافدين قدموا من جغرافيا مختلفة واستقروا في تلك المناطق والبلدات، وغير ذلك من العوامل الكثيرة.
فالقاف الواضحة مرتبطة بالمناطق الجبلية في كثير من الأحيان (السويداء وجبال الساحل)، والتأثر بالبلدان المجاورة واضح عند أهالي مدينة طرطوس وبعض قراها المتاخمة أو القريبة من لبنان، أما أهالي المناطق الشرقية فالتأثر بلهجة أهل العراق واضح وجلي، ولا يختلف الحال مع أهالي منطقة حوران المحاذية للأردن، وغيرها العديد من الأمثلة.
أعتقد أن اللهجة لها صلة بجغرافيا المنطقة وبالتفاعل والعلاقات القائمة مع المناطق ودول الجوار، والتي قد تكون متواترة ويومية، بالإضافة إلى عوامل وأسباب أخرى لا تبتعد عن هذا السياق، ولكنها حكماً ليست مؤشراً أبداً على جهل أو نقص معرفة، ولا عن رقي أو تخلف.
أنا وطفلي ولهجتنا
بقلم لودي علي