نحنُ الضحايا ونحنُ الشاهدات

كتابة :
سها عِزّي

الارتباط بشاب أو شابة من غير الملة فكرة محرمة في مجتمعنا الدرزي، هذا السيناريو النابع من الأيديولوجيّات الدينيّة قد أدّى في كثير من الأحيان إلى القتل والتبرّي والمقاطعة، ولاسيما لنا نحن النساء، فنحن كنّا الضحايا والشاهدات بقهرٍ وصمت على مئات القصص المروّعة والجرائم التي سقط حقّ ضحاياها باسم الدّين والملّة وشرف العائلة.

 

“اللي بياخذ من غير ملّته بموت بعلّته”

 

شخصيًا، كنتُ شاهدة على حادثتين؛ الأولى كانت لزواج صديقة أعرفها من عائلة معروفة لدينا في السويداء بالتشدّد في هذا الموضوع، لكن حدث عكس ذلك مع صديقتي التي ناضلت وتزوجت من الشاب الذي أحبّته طيلة فترة دراستها وكان من حي الميدان الدمشقي، وأقيم زواجهما في السويداء منذُ أربعة أعوام رغم التحديات المجتمعية التي واجهت الشابة وعائلتها.

الحادثة الثانية، لم أكن أعرف الفتاة شخصيًا لكنها كانت ابنة عم لِصديقة لي، وأخبرتني صديقتي بما جرى مع ابنة عمّها عند معرفتها بأنني على علاقة مع شاب من خارج الملّة من باب الحرص والخوف الذي أصبح فطريًا عند الكثيرات منا.

تلك الفتاة أحبت شابًا من خارج الملّة أيضًا، وهُدّدت بالقتل من أبيها وأخوتها وأعمامها إن تجرأت على التفكير بهِ كزوجٍ لها، ومُنعت من متابعة دراستها الثانوية ورؤية ضوء الشّمس، حُرمَت من أبسط التفاصيل كزيارة الأصدقاء والخروج من البيت حتى وإن كانَ للدكان الذي يقعُ في آخر الشارع خوفًا من أن ترتكب “الخطيئة” وتهرب مع حبِّ حياتها.

تلك الفتاة لم تستسلم رغم معرفتها بأنها قد تفقدُ حياتها بأيّة لحظة، كانت وحيدة في عتمة غرفتها تفكِّرُ في طريقة تسمح لها بالبقاء إلى جانبِ من تحبّ في زمان لا يسمح أو يعترف بحرّية النساء في تقرير مصيرهنّ أو اختيار شريك الحياة والعمر، ومكان كان ومازال قتل النساء فيه مباحاً إن أرادت العائلة ذلك، فهذا من حقهم، فالعرفُ فوق القانون؛ القانون الذي لم يُنصف بأحكامهِ حقّ امرأة واحدة أو عَمِل على حمايتها من القتل.

بدأت عائلتها على فور علمهم بالبحث لها عن زوج من الملّة “يستر عليها قبل أن تقع المصيبة” فكلام الناس لا يرحم وديننا لا يسمح! وبعد شهر تقريبًا من العذاب النفسي والجلد باسم الدّين والعادات الموروثة على صيغة ” اللي بياخذ من غير ملّته بموت بعلّته” دخلت أمها إلى غرفتها فلم تجدها وبعد عدّة أيام اتصلت الفتاة بأمّها وقالت لها بالحرف ” أني اتزوجت يا أمي من حُبّ حياتي، والله بعمره ما بيظلم حدا، بس أنتو أجبرتوني إني أهرب، قتلتوا فيني كل شي ومضلّش خيار قدامي غير النجاة، بعرف بيّ راح يتبرا مني وعمامي وأنتِ بس الله اختارلي حياة غير حياتكم يا أمي. الله يسامحكم ويغفرلي إن أذنبت بأني حبيت”.

بالفعل قد تجرّأت بخطوات ثابتة وخفيفة على الهروب بقصدِ النجاة من سياط الشرف والدّين الذي نهش بها ومن الرصاصة التي كانت ستخترقُ جسدها ببرودة، غادرت المحافظة مع الشخص الذي تحبُّه إلى الأبد، وعائلتها ماتزال “متبرّية” منها كليًّا إلى يومنا هذا على الرغم من مضي أكثر من خمسة عشر عامًا على الحادثة.

 

الحادثة الأقسى

 

التي لا يمكن محوها من ذاكرة النساء في المنطقة، كانت قصة هدى أبو عسلي منذ ستة عشر عامًا؛ الحادثة التي مزّقت قلوبنا وحُفرت في وجداننا إلى الأبد.

هدى كانت فتاة سورية حالمة، لم تكن تعرف حدودًا للحبّ وهذا ما دفع بها إلى التمسك بالشخص الذي أحبّتهُ بصدق والزواج منه في نهاية المطاف.

ففي عام 2005 تزوجت الصبية هدى أبو عسلي أثناء دراستها في كلية الآداب، دمشق، من شاب من غير طائفتها. كسرت القيود والتابوهات ونهضت وقاومت بشجاعة من أجل من تحبّ.

وعند معرفة أهلها بالأمر قطعوا علاقتهم بها، وانهالوا عليها بالألفاظ السيئة والتشهير ولم تعد تعني لهم شيئًا فالحبل السرّي قد انقطع بينهم وبين ابنتهم هدى.

قاموا بتهديد هدى بالقتل عدّة مرات، ولكن بعدها المكاني قد ساعد في توفير الأمان لها.

بعد فترة قصيرة، جرت مفاوضات بين عدد من أفراد وشيوخ أسرتها ووجهاء من قريتها وسمحوا لها بالعودة إلى بيت أهلها وبأنهم سيعدّون لها حفل زفاف وستكون بخير من دون أن تتعرض إلى أي مكروه.

فكّرت هدى مطولًا، واختارت العودة لحضن عائلتها ظنًّا منها أنها ستكون على ما يرام، وستزفُ من بيت أهلها بثوبٍ أبيض وأهاليل وزغاريد.

وما إن عادت هدى إلى السّويّداء حتى قام والدها وأخيها بقتلها بسكين ثمّ إطلاق النار عليها وفي مساء اليوم ذاته أقام الأهل عرساً حقيقياً كما وعدوا ابنتهم!

امتلأ المكان بالكثير من الناس

وبدأت الزغاريد تطربهم من جهة، وترافق هدى إلى منفاها الأخير من جهة أخرى، حيثُ كانت جثتها في طريقها إلى المشفى الوطني في السّويداء.

لطالما كان حقّنا في اختيار الشريك هو جزءٌ من حرياتنا الخاصة، لكن في المجتمعات التي تولي سُلطةً للدين يصبحُ اختيارُ الشريك أمراً متوقفاً على انتماءه لدين أو مذهب معين، ويتحول الارتباط من حقّ خاص لحقٍّ عام يمكن للجميع أن يتدخل فيه ويجوز لأي أحدٍ أن يحاسب عليه.

ولأكون منصفةً لا يمكنني القول بأن هذه القصص تحدث في مجتمعنا فقط، بل إن الزواج من طائفة أخرى أو دين آخر يصبح أمراً مرفوضاً في العديد من المجتمعات باسم الدين والعادات والتقاليد، إلا أن هناك دائما وجهات نظر أخرى وحالات استطاع البعض فيها تحدي هذه العادات لتتكلل قصص الحب العابر للطوائف بالزواج المختلط.

هكذا تجلدنا مجتمعاتنا بلا رحمة، وهكذا يأخذُ القهرُ أشكالاً مختلفة تتركُ طعمَ المرارِ في قلوبنا.

 يأخذُ القهرُ أشكالاً مختلفة تتركُ

طعمَ المرارِ في قلوبنا

 

سها عِزّي