مروة والخوف الطائفي

كتابة :
مروة ملحم

تقول مروة: ولدت وعشت طفولتي في حيّ واحد، بمدينة واحدة، يشبهُ سكانه بعضهم البعض في كل شيء، اللهجة وطريقة اللباس والطبخ والمواقف ذاتها من القضايا السياسية والإنسانية بل كل القضايا، ولم يكن مسموحاً لنا تجاوز حدود الحي أبداً، خوفاً علينا، كنا محصورين داخل الحي البسيط والساحة التي تتوسطه، نعيش وفق عادات واحدة ونظام حياة متشابه، مجموعة من الناس ليسوا فقط من مذهب واحد وطائفة واحدة، وإنما أيضاً ينحدرون من منطقة جفرافية واحدة لهم ثقافتهم الخاصة وقناعاتهم الراسخة -وإن غاب مصدرها- ولهم مخاوفهم وهواجسهم تجاه الطوائف الأخرى وسكان الأحياء الأخرى.


مَن صَنع الفوارق؟

 

طيلة حياتي لم أعرف امرأة محجبة واحدة إلا اللواتي مررن صدفة في حينا وهن في طريقهنّ إلى مكان آخر. كنت في صغري أهرب منهم معتقدة أنهنّ قادمات لخطفي، لا أعرف منبع هذه الفكرة، لكنني كنت أبني أوهاماً في رأسي حول المحجبات تجعلني أقفز رعباً كلما رأيت واحدةً وإن كان على بُعد مئات الأمتار ، وبعد أن كبرت قليلاً زال خوفي منهن لكنني بقيت محافظة على شعور الانقباض والخشية من الاقتراب منهنّ.

في الثانوية التي كانت أبعد قليلاً عن الحي، كان لدي الكثير من الصديقات، وبدأت أتعرف على المفردات التي تحدد معنى الفروقات الطائفية والاجتماعية، فوضعت لخوفي اسماً، كأنني استطعت تعريف جماعة لا أطيق معرفتهم ولا الاقتراب منهم. 

كان مفاجئاً لي أن هذا التوحد بين شكل نساء حيّنا وعدم ارتدائهنّ الحجاب لم يكن أمراً بريئاً أو مصادفة، وإنما أمر يوضع تحت ثقافة طائفة كاملة، حسناً ومن صنع هذه الفوراق؟ 

على أي أساس أصبحت واقعاً؟

غموض كامل حول الموضوع يجعله مهيباً أكثر ومثيراً للمخاوف والأسئلة.


مسيرة حياة مروة

 

مع دخول الحرب وفي بداياتها، كنت مستعدة لإنهاء علاقتي بأي صديقة تقرر ارتداء الحجاب، ما إن أراها والمنديل يغلف رأسها تصيبني الصدمة والنفور وأنهي تواصلي معها نهائياً، حتى في إحدى المرات، “هبة” التي كانت صديقتي المفضلة في الصف وزميلتي في المقعد، كل يوم نقضي طيلة النهار في الحديث عن تفاصيل حياتنا وأحلامنا لما بعد امتحان البكالوريا، مرضت في أحد الأيام وحضرت أمها لاصطحابها من المدرسة، كنت أساعد هبة في النزول إلى البهو متكئة علي، وحين وصلنا الطابق الأول، صُدمت برؤية والدتها تضع حجاباً أبيض على رأسها، كانت تقف قلقة بانتظارنا وبدأت تطرح عليّ أسئلة سريعة ومتلاحقة، حول “هبة” وكيف أصابها الإعياء فجأة وحول الدراسة والامتحان ولا أذكر ماذا أيضاً، تشوّش ذهني ولم أستطع التركيز، تركتهما وعدت إلى الصف منزعجة جداً، يومها بكيت بشدة لأنني خسرت صديقتي “هبة” التي لم يكن لديها أدنى فكرة عما يدور في ذهني، لم تفهم يوماً سبب تدهور صداقتنا وانقطاع تواصلنا التام.

استمر الأمر حتى السنة الثانية في الجامعة، شبه وحيدة بلا أصدقاء كنت أمضي أيام دراستي الجامعية وبذهن مشوش أغلب الوقت لأسباب كثيرة، حتى أنني في أحد الأيام نسيت دفتري وآلتي الحاسبة الهندسية في قاعة المحاضرات، وعدت إلى المنزل دونهما، حين اكتشفت اختفاءهما جن جنوني، كان دفتري يحتوي كل ما أكتبه في المحاضرات، والآلة الحاسبة كانت غالية الثمن جداً ولا أستطيع شراء غيرها، ولم يكن لديّ أيّ توقع حول مكان تركي لهما، وبالتالي لا أمل في استعادتهما. 

في اليوم التالي وأنا أنتظر بدء المحاضرة الثانية، دخلت فتاة شابة تتلفت حولها بحيرة واستعجال، وقعت عيني مباشرة على دفتري في يدها، فأسرعت إليها، دون أن أسألها عن أي شيء حين رأتني أقترب منها عرفت أني صاحبة الأغراض وناولتني إياها على الفور. 

أخبرتني أنّها تبحث عني منذ اليوم السابق، وحين يئست من إيجاد صاحبة الاسم المكتوب على الدفتر، بحثت في قوائم الطلاب و في برنامج الدوام، وعرفت موعد محاضرتي وجاءت لرؤيتي.

في الليل عندما كنت أصفُ لأمي سعادتي باسترجاع ما ضاع مني، تذكرت فجأة أنّ الفتاة كانت مُحجّبة، وانتبهت أن الأمر هذه المرة لم يستفز أي شعور بداخلي، حتى أنني بالكاد تذكرت وجوده، استغربت الأمر كثيراً، ولم أعرف إن كان الأمر مؤقتاً أم أن هذه الفتاة استطاعت إزالة رفضي للحجاب وشعوري بالنفور تجاهه.

في الأيام التالية التقيت بها مرات كثيرة في محاضرات مشتركة، كانت متفوقة ومجتهدة جداً، تحضر كل الدروس وتكتب جميع الوظائف، تدرس قبل الامتحان بجنون ومعدلها مرتفع جداً، أصبحنا صديقات شيئاً فشيئاً، كانت تساعدني في دراستي بتفانٍ غير محدود، وبالتزام مطلق وكأنها تحمل مسؤولية نجاحي، أمرٌ لم أعهده من قبل. 


مروة وصديقتها ميس

 

“ميس” كانت من مدينة إدلب، لهجتها مميزة ومتدينة جداً، عرّفتني على أشياء لم أسمعها في حياتي عن مدينة إدلب، عن طبيعتها ونمط الحياة فيها، سكانها وطباعهم وأعمالهم، كانت الحرب حينها على أشدها في إدلب، والحياة فيها على المحك طيلة الوقت، سافرت إلى قريتها في الصيف وأعلمتني أن الاتصالات ستكون مقطوعة غالباً، والوضع خطرٌ، فاقترحت عليها أن تأتي إلى منزلي إذا واجهت خطرَ انقطاع الطرقات والتغيب عن الجامعة، و أنّ بإمكانها المبيت عندنا ريثما تفتح المدينة الجامعية مع بداية العام. 

وفعلاً هذا ما حدث، جاءت لزيارتي قبل أسبوعين من بدء الفصل الدراسي و السكن الطلابي ما يزال مغلقاً، لأن الطريق كان مهدداً بالانقطاع وبالتالي لم تكن تستطيع السفر إلى حمص.

في الأيام التي قضيناها معاً، كنت أشعر بألفة لا مثيل لها، نسهر ونضحك، ندرس ونفكر، نأكل وننام، ونعيش معاً كل التفاصيل، وعندما تتصل بأهلها بصعوبة شديدة كنا نتوتر معاً ونتلهّف للاطمئنان عليهم وسماع أخبار المدينة. 

لقد حفرت ميس مكاناً في قلبي وفي حياتي، جعلتني أختبر مشاعر جديدة تماماً تتعلق بالآخرين، بفهمهم واحترام هويتهم، بسماع قصصهم وتاريخهم وانتماءاتهم المختلفة، لن أقول أني تأقلمت مع فكرة الحجاب أو تقبلتها، الأمر أكثر من ذلك، فبعد فترة بدا كلّ ذلك سخيفاً، ضحكت وسخرت من خوفي من المحجبات ومن رفضي لهنّ. 

وبدورها “ميس” كان لديها الكثير لتخبرني به عما يعتقده سكان إدلب عن سكان حمص، وبالتحديد عن طائفتنا، لكن الفرق أنها لم تعش ذات الخوف تجاهي، بل كانت طيبة قلبِها دائماً تدفعها باتجاه التعرّف على الآخرين ومساعدتهم ومصادقتهم، هذا ما قادنا لنكون أعز صديقتين، وقادني لأتغير كثيراً وأفكر كثيراً قبل إطلاق الأحكام على الناس.

سخرت من خوفي من المحجبات

مروة ملحم