لقد وجدتُ حُباً

كتابة :
زاهر جمعة

كما هي العادة… 

 

استيقظتُ قبل أذان الفجر على نداء يهتف باسمي، لكنه اليوم تكرر كثيراً، إنه صوت ليس بشرياً ولكنني أعرفه، صوت أصبح بديلاً عن المنبه لسبع سنين خلت تحمل في طياتها ذكريات لأيام عشتها  في بيتنا القديم قبل نزوحي مع أهلي. 

بلغتُ حينها الثامنة عشرة، لكنّ عقلي سبق عمري كما كانوا يقولون.

 مازلت أذكر مواء القطة الصغيرة التي كنت ألاطفها وحزني عند نزوحنا دون أن أراها هي والفتاة الجميلة التي جعلتني أحبها، كنت أنتظرها أمام بيتها لأراها وهي ذاهبة إلى “معهد التمريض”، ألاحقها وأترنم بالكلام وهي تبتسم، كانت تكبرني بثلاثة أعوام، تحمل ابتسامة تجعل قلبي يلتهفُ إليها ، وكنت أعتقد أن حبي لها سوف ينتهي حين أموت، لكنّ قلبي مات قبل أن أموت.

لا أحد يعرف ما حل بي سوى صديق أدركت معه أن حبي سيجلب الحرب والقتل والخطف والتهديد.

لم أستطع إتمام نومي اليوم، استيقظت وشربت فنجان القهوة يرافقني صوت فيروز، ثم بدأت أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي وأقرأ عن هذا الوباء الذي اجتاح العالم، يقولون إن الإصابات آخذة بالازدياد مطالبين الالتزام بإجراءات الصحة الوقائية، وكثير من الكلام المكرر لشعب قتله الفقر والجوع بعد حرب طويلة…

تجمدتُ للحظات عندما قرأتُ خبر وفاة شاب في حادث سيارة على طريق السفر،

 يا إلهي، لا أصدق، إنه “سمير”.

“للأسف.. صديقي سمير، انقطعت علاقتي به بعد نزوحنا، ولكن رغم مقاطعتهُ لي التي لم أعرف لها سبباً، إلا أنني كنت أُخلّد الأيام التي عشناها سوياً في صغرنا، كزيارتي لعائلته في عيد الغدير. 

كنت صغيراً حينها ولا أعرف هذا العيد، لكنني عدت الى البيت باكياً أصرخ: “لماذا لم تخبروني أن اليوم عيد!؟.”

مازلت أذكر ضحكات أبي تارةً و توبيخه تارةً أخرى، من براءة الأطفال وصفاء قلوبهم تجاه تعقيدات الحياة”

يا لها من أيام جميلة مضت! سأعود لنومي وأخلدُ إلى ذاكرتي.

لكنّ صوت حطام أتى من المطبخ، ذهبت مسرعاً كي أرى ما حدث، فشاهدت أبي واقفاً والدماء تنزف من يده من آثار انكسار فنجان قهوته، هرعتُ وأحضرت معقماً وشاشاً وقمت بتضميد جرحه. 

قال لي: “لن أستطيع القيادة، حضّر القهوة من جديد، سنشربها معاً ومن ثم ستذهب معي لزيارة بيتنا القديم”

لم أصدق ما سمعت!

 “لطالما سألته لمَ لم نعد إلى بيتنا وجيراننا؟ وكان يقول لي: لم يعد مرحباً بنا ونحن الوحيدون الذين ننتمي إلى طائفة أخرى. سوف يأخذون بثأرهم منا لأننا صرنا بمثابة أعداء بعد أن خسرت طائفتهم الكثير من أبنائها في الحرب”

بدأت بطرح أسئلة كثيرة وأنا أشرب القهوة مع أبي: “هل سيتذكرنا جيراننا بعد غيابنا عن منزلنا ويتذكرون محبتنا لهم أم أنهم سيقتلوننا؟

هل مازالوا يقطنون في بيوتهم أم هاجروا مثلنا؟ لماذا غيرت رأيك الآن يا أبي وتريد الذهاب إليهم؟ هل انتهى كرههم لنا؟”

تجهزتُ للذهاب بلهفة إلى ذكرياتي، “كأنو اليوم عرسك شبك؟”… هكذا وصف أبي تجهزي مع ضحكات لم أفهم مغزاها…

أدرت محرك السيارة وانطلقنا، ساعة واحدة فقط، ساعة وأعود إلى الذكريات الخالدة في قلبي.  

قدت السيارة حتى وصلنا إلى الحي وكلي استغراب فالمكان لم يكن مهجوراً كما تصورته.

“لا أصدق، هذا بناؤنا… يا إلهي كم تغيرهذا البناء!”

كان بناءً محروقاً لم أميز معالمه، ترجلنا من السيارة ودموعي تنهمر على ماضٍ جميلٍ فيه، على حب كان هنا، على ذكريات ضاعت مني إلى الأبد.

سمعت صوتاً يقترب منا، شخص ما يصيح قائلاً: “أهلا بالغوالي، والله شرفتو اهلكن _حقكن علينا _ مو نحنا اللي حرقنا البيت ونهبناه _ بس ما قدرنا ندافع عنو _ والله مات شباب من عنا وهنن عم يطفوه _ إنتو أهل وأحباب”

إنه “أبو حيدر”، جارنا القديم، رحب بنا ترحيباً شديداً، وانضم إليه أيضاً عدد من الأشخاص أخذوا في الازدياد، تركتهم وتجولت بحرية في الحيّ أبحثُ عن بيت صاحبة الابتسامة الجميلة، كنت متردداً بأي سؤال أبدأ؟ 

وكيف سأشرح لها مجيئي وكلي دهشة بالحي الذي انطبعت لدي صورة عنه بأنه محتل من قبلهم؟ 

وقفت أمام أطلال المحبوبة وكلي خوف، اقتربت لكي أقرع الباب، وإذا بصوت يصيح من بعيد: “لا تقرب عالبيت هدول مكورنين”.

أصابني ذهول وخوف أكبر، ولكنني تجاهلت ماسمعته وقرعت الجرس.

أجاب صوتٌ من الداخل أعرفه: “اتركوني بحالي يلي فيني مكفيني”!

طرقتُ الباب بقوةٍ مجدداً، وإذا بفتاة جميلة سوداء الشعر عيناها بنيتان تضع “كمامة”  وتلبس رداء أبيض، خرجتْ من عتمة بيتها كالنور، اقتربت مني وأنا أنظر بخجل وقالت: “طولت الغيبة يا زاهر”.

أزالتْ كمامتها عن وجهها الجميل ورأيت ابتسامة أعادت الحياة إلى قلبي، قلت: “الحمد الله أنني وجدتك يا تاترينا”

أمسكتُ يدها وهي تبكي وتطلب مني ألا أقترب منها لأنها مصابة “بفايروس كورونا”، كنت مصراً على إمساكها ورحنا نسير على الطريق.

الطريق الذي كنت أغازلها فيه وأنا أترنم بأنغام فيروز، وبدأت أغني لها. 

“كيفك قال عم  يقولوا صرتي برا البلاد، أنا والله كنت مفكرك صار عندك ولاد”

 ضحكت واستعادت بسمتها على وجنتيها وقالت:

لم أعرف سعادةً حقيقية بعد غيابك، آلمتني رؤيتك الآن وأنا لم أسمع عنك أي خبر بعد الرحيل، كنت أتخيل أنني سأراك تنتظرني أمام المعهد، أردت أن أوضح لك لماذا كنت أخشى الكلام معك، أهلي يرفضون علاقتنا، ليس لعيب فيك، ولكن لأنك “لست منا”، يعتبرون كل من ليس منا غريباً، ويلحقون به الضرر، وكنت أصدقُ أن ذلك لمصلحتي، لكنني أعرف الآن أنه محض كذب ووهم، انظر إليهم، ها هم يعاملونني كغريبة اليوم وأنا منهم، ذنبي الوحيد أنني أصبت بالفيروس أثناء عملي كممرضة، لم أسلم من إقصائهم وتنمرهم، رغم كل ما قدمته من مساعدات وخدمات حين كنت بكامل صحتي.

قاطعتها وأنا أنظر إلى عينيها وقلت: الحب يا “تاترينا” لا يعرف طائفة أو دين، الحب لا يعرف لوناً أو عمراً، لقد زرعوا فينا هذه الأفكار كي لا نتقبل بعضنا البعض، وكي يعم الكره بيننا، وهم يحاربون بعضهم لأتفه الأسباب.

ها قد وجدتك مجدداً، أنتِ الحب الذي أنتظره، اتمنى أن يعود قلبك كما كان، ابتعدي عن كل الأفكار الذي زرعوها في نفسكِ ليعيش حبنا، أنا سأجعل من حبنا حقيقة.

أحبك تاترينا

أنا سأجعل من حبنا حقيقة

زاهر جمعة