لا نظرات بعد الاّن

كتابة :
أحمد صلاح كتّوب

أيلول عام 2012 ليس شهراً جيداً للغاية؛ العديد من المهام للقيام بها، إعداد السجاد وتنظيفه وتجهيز المؤونة، الاستعداد للمدارس والجامعات، فضلاً عن الأزمة السورية التي لم تترك لأحد مجالاً للابتعاد عنها.

أيلول عام 2012 ليس شهراً سيئاً للغاية، يمشي “مياس” في أحد الشوارع الحيوية بمحافظة طرطوس، كان يمشي بسرعة ورغم خطواته المترنحة قليلاً لم يسقط!

امرأة استوقفته قليلاً، وزنها الزائد لم يمنعها من الركض أيضاً باتجاه “مياس”، ذلك الشاب ذو المشية الغريبة المترنحة والثياب والهيئة البسيطين جداً، اتجهت نحوه وبيدها قطعة من النقود تود إعطاءها له.

الزكاة تبدو من أفضل الطرق للتقرب من الله، وكان الجميع يحتاجون التقرب من الله في تلك الفترة، قالت المرأة وبدون ترددٍّ أو انسحاب: “خليني أكسب حسنة فيك”… مياس كان مستعجلاً جداًّ وقتها فلم يقل لها أنه موظف ولا يحتاجها ولم يعارضها، أخذ المال بابتسامة وتابع سيره صامتاً.

“مياس سلمان”، شاب من ذوي الإعاقة من محافظة طرطوس، منطقة الشيخ بدر قرية النويحة، نقص أكسجة أثناء الولادة غير من حياة هذا الشاب وجعله من ذوي الإعاقة الحركية، يستطيع الحركة لكن بشكل محدود، ما جعله يواجه الكثير من الرفض، الكثير من الانكسارات، الكثير من التحديات والكثير من الإنجازات التي لم يكن ليحققها لولا نقص الأكسجة هذا.

” طفولتي مغيّبة قليلاً عني، كنت أحاول المشي دائماً لكن ما أتذكره تماماً أولى خطواتي، وأولى سقطاتي، قد أتألم من قدمي قليلاً لكنني كنت أقف وأمشي من جديد”

مثل أي طفلٍ آخر تماماً، يضحك ويلعب ويصرخ ويركض ويسقط، قد تختلف ضحكاته قليلاً عن ضحكات غيره من الأطفال.. لكن الفرحة لا تخبئ نفسها، كان هذا الطفل السعيد المستكشف الذي يتهيأ ليدخل المدرسة، حتى أتى ثلاثة من الرجال لأبيه وقالوا بالحرف الواحد الذي لم ينسه “مياس” أبداً: “وشو منها الدراسة إلو؟!”

تفقد الكثير من الأشياء الكثير من المعاني عندما لا تكتشفها بنفسك، خاصة عندما يكون الأمرُ متعلقاً بك، قد تعرف الكثير عن نفسك، وقد يجهل الآخرون الكثير عنك، وقد يعرف الآخرون شيئاً أنت نفسك تجهله.. لتكتشف وأنت طفلٌ وفي غضون دقيقتين فقط أنك “معاق” حسب قولهم!!


كانت المدرسة تمثل بعضاً من الأوقات الصعبة “لمياس”، كان مجتمعه كله يمثل بعض الأوقات الصعبة، يقول مياس: “بيني وبين نفسي لا أشعر بإعاقتي، لا أشعر بأنني مختلف عن بقية الناس في مجتمعي، لكن لا يمكنني تجاوز فكرة إعاقتي عند تعاملي مع المجتمع، فضعت في التفكير… هل هذه الإعاقة مشكلتي؟ أم هم من يعتبرونها مشكلة؟”

لكن مع تقدم مياس في العمر، أصبح مجتمعه – قرية النويحة – أكثر تقبلاً له، كل القرية الآن تعرفه، لربما كان الأمر متعلقاً بتفوقه الدراسي، أو لربما بسبب تجارة عائلته بالخضار والحبوب، أو ربما بسبب إعاقته.

لم يكن هذا مهماً، المهم أنه يمشي الآن في الشوارع دون أن يتلقى نظرات الاستغراب التي اعتاد عليها، ولا نظرات الشفقة، لكن مياس لم يعرف أنه على وشك دخول مرحلة جديدة، في مجتمع جديدٍ ومختلطٍ جداً لم يدركه حتى أصبح ضمنه.


مجتمع الجامعة كان جديداً جدا لمياس، والنظرات كانت جديدة أيضاً، كان يشعر بأنه غير مرحبٍ به وبأن هذا ليس مكانه مع أنه استحقه بجدارة، إمساكه للكتب الجامعية في يده وإظهارها أثناء مشيه داخل أروقة الجامعة لم يساعد، مع أنه أصبح طالباً في كلية الحقوق لكنه شعر كما لو أنه لا يستحق ذلك.

كان يلجأ للمشي في الطرق الفقيرة بالناس، يهرب نفسه في الأنفاق ومرآب السيارات حتى يدخل الجامعة ويتعلم كأقرانه، فقط حتى يلتقي بأقل عدد ممكن من المارة وأقل عدد ممكن من النظرات.

استمر هذا لفترة، وكعادة هذا الشاب العنيد، قرر تحدي هذا الوضع. يوماً بعد يوم، فكر أنه يريد المشي في قلب الجامعة غير آبهٍ لمن ينظر إليه أو كيف سينظر، لأن الناس سوف ينظرون دائماً، لا يهم سواء كان هو أو أي شخص آخر، فلينظروا كما يريدون، فمن الأفضل تركيز جهودنا على الناس الذين نعرفهم بدلاً عن الذين لا نعرفهم.

بعد تخرج مياس من كلية الحقوق بدون خسارة أي سنة، فكر بكل ما يفكر به الشباب في مثل سنه، الارتباط والاستقرار العاطفي، حلم دائماً بإنشاء أسرة كبيرة يستقر معها في قريته داخل أرضه التي اعتاد عليها.

كثيراً ما نجد كلمة “لكن” في العديد من أحاديثنا وكلماتنا، ومواقفنا في الحياة أيضاً، وجدها مياس أيضاً في سعيه للاستقرار، التجربة الأولى كانت تحدياً دائماً له، التجربة الأولى في أي شيء، المدرسة والجامعة والسفر والعمل والحب.

أن تجد الفتاة المناسبة أمر سهل، أن تفاتحها برغبتك بالارتباط بها والزواج منها أصعب قليلاً لكنه نجح، أن ترضي أهل هذه الفتاة أمرٌ أصعب بكثير خاصة عندما يرونك على أنك شخص ناقص غير قادر على تدبير أمور الحياة. فيتم رفضك حتى دون إعطائك فرصة للتعبير عن نفسك.

كان مياس وقتها في السنة الثالثة من عمله في مديرية مالية ناحية الشيخ بدر، بيته جاهزٌ وأرضه مستعدة للزراعة، لا شيء ينقصه، لكنها النظرات ذاتها، تلك التي رافقته خلال نموه ودراسته وتخرجه وعمله، النظرات لا تتغير لكنها تتحول من شخص لآخر.

بعد الكثير من المواقف المشابهة، تخلى مياس عن حلم الزواج، ما يزال يأمل به بين الحين والأخرى لكنه لم يعد يلاحقه ويسعى إليه.

لعل إعاقة مياس حرمته من عيش العديد من اللحظات التي يمكن للأشخاص من غير ذوي الإعاقة عيشها، كقيادة الدراجة والعزف والرسم ولعب كرة القدم ولحظات الحب أيام المراهقة، لكنها سمحت له بلحظات أخرى أكثر تميزاً تشبّع بها، كشعوره بفخر الأساتذة به وبجهده وبتفوقه، شعور الفوز بأي تحدٍّ كان يتعرض له.

إنجازات مياس كثيرة، آخرها كان خوضه لمخيم دمج فعال، مخيم “عشرة” كان تجربة لا مثيل لها بالنسبة إليه، أفراد من مختلف البيئات والثقافات، من ذوي الإعاقة وغيرهم عاشوا معاً 21 يوم لحظة بلحظة، لحظات الملل والسعادة والعمل والطعام والتسلية. من هنا بدأ مياس يؤمن بقضيته مرة أخرى، بالعمل ليس لأجل نفسه فقط، بل لأجل كل شخص ذو إعاقة في مجتمعه.


لو أن الطيور توقفت عن الطيران… فهل هذا ينفي أنها طيور؟ وهل يعني أنها لا تأكل أو تتكاثر أو تغني كالطيور؟

نولد عراة؛ بلا أي هوية أو دين أو اسم مكتوب على جبيننا أو صفة أو أي شيء، ونكتسب على مدى عمرنا مجموعة من الصفات والسلوكيات والقضايا التي ندافع عنها… لكن أحياناً نولد بقضية وندافع عنها بشراسة أيضاً!

“إذاً… “مياس سلمان”، خريج حقوق في عقدي الثالث، ناشط مجتمعي بمجال حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، موظف بمديرية المالية ويوجد في جعبتي الكثير من الإنجازات والأهداف، رفضت الرفض الذي تعرضت له وأصبحت فرداً فاعلاً أكثر إنتاجية.

من الممكن أن تكون قصتي هي قصة أي فرد فيكم، إن سمحتم لأصواتكم بالخروج”.

لا يمكنني تجاوز فكرة إعاقتي عند

تعاملي مع المجتمع

مياس سلمان