صعب.. لكن ليس مستحيلاً

كتابة :
فراس القاضي

أن تصلكَ/كِ دعوة لحضور لقاءات أو “ورشة عمل” غايتها النهائية تنقية خطابكَ/كِ من الكراهية، في بلدٍ تجبركَ/كِ كل ظروفه على تنفس الكراهية، وتوزيعها على كل من تتخيل/ي أنه كان سبباً فيما وصلتَ/تِ إليه، فإن الأمر بدا كمزحة، خاصة أن هؤلاء الذين توزع/ين عليهم/ن كراهيتك، ليسوا آلافاً، ولا عشرات ولا مئات الآلاف، بل ملايين الناس من كل الانتماءات والأعراق والألوان والطوائف والدول والقارات. أي عملياً؛ أنتَ/تِ أيضاً تحولتَ/تِ إلى مخلوقٍ مجبولٍ بالكراهية، دون أن تعلم/ي أحياناً، وبكامل وعيك وإرادتك ورغبتك أحياناً أخرى. وبناء على ما سبق، فإن قبولكَ/كِ الدعوة، يشبه إلى حد كبير – وخاصة من الناحية النفسية – قبولكَ/كِ المشاركة في عملية تجفيف مياه البحر الأبيض المتوسط بإسفنجة.

 

مياه الكراهية قذرة

 

لكن ما حدث خلال الأيام الأربعة، جعلني – وأعتقد أنه جعل غيري من المشاركين/ـات أيضاً – أُدركُ أنه بحرٌ مصطنع كالبحار التي نراها في الأفلام، والتي هي في الحقيقة مستوعب ماءٍ صغير كبّرته المؤثرات والصورة المضخّمة، له فتحة تصريف صغيرة، فوقها غطاء صغير، تستطيع من خلاله تفريغ كل هذا الماء خلال دقائق، لكن وفي ذات الوقت، الأمر ليس بهذه السهولة، لأن مياه الكراهية قذرة، وشديدة السواد، والرؤية عبرها معدومة تقريباً، وتبدو المهمة الأصعب هنا: إيجاد الغطاء الصغير، وهذا يحتّم عليكَ/كِ أن تعترفَ/ي بكراهيتك أولاً، وأن تواجهها/ تواجهيها ثانياً، وأن تغوصَ/ي فيها للمرة الأخيرة ثالثاً، لترفع/ي ذاك الغطاء وتبدأَ/ي بمرحلة جديدة من حياتك المهنية، والشخصية إن استطعت.

 

خطاب الكراهية لا يمييع الحقائق

 

في مثل هذه اللقاءات والتدريبات، هناك أمر حساسٌ وخطيرٌ ودقيقٌ جداً، ولا يقلّ أهمية عن الغاية الأساسية، ألا وهو اختيار المدرب/ـة، وهذا ليس بالأمر اليسير، إذ ببساطة؛ عليكَ/كِ العثور على مدرب/ة تجاوزَ/ت هو/هي أولاً كراهيته/ـها وعالجها/عالجتها، أو أنه/ـها لم يغرق/تغرق بها أساساً، ويبدو هذا أقرب إلى المستحيل، وخاصة إن كان عليكَ/كِ اختياره/ـها من الوسط الإعلامي الذي كان انقسامه حول الأحداث السورية عمودياً وأفقياً، ولم ينجُ منه إلا القليل القليل، وإلا فسنحصل على عكس الغاية تماماً، وستتعزز هذه الكراهية إن بدا من المدرب/ة أيّ مَيلٍ أو تعاطفٍ أو تأييدٍ لأحد أطراف النزاع إن صح التعبير، لذا قلتُ الأمر خطير وحساس ودقيق. وقد نجح كادر الفعالية في الاختيار، الأمر الذي أدى -ومنذ اليوم الأول – إلى تجاوز أحاديث ومداخلات غالبية الموجودين/ـات تحفظات لا يتم التخلي عنها عادة، تحفظات وأحاديث اعتاد الإعلاميون/ـات تحديداً، وبسبب قوانين صارمة جداً نقلوها من أعمالهم/ن إلى حياتهم/ن الخاصة، على إخفائها ودفنها حتى في أحاديثهم/ن الخاصة مع أشخاص ليسوا من ذات التوجه، أو بشكل أدق، ليسوا من ذات التوجه والدين والطائفة أيضاً.

كنتُ خلال الأيام الأربعة قليل الكلام، شديد المراقبة والاستماع، أتعرّف عن كثب وأتعلم الطريقة الصحيحة في إدارة التناقضات الواضحة والمواقف المتباينة حول كل ما يجري في سورية بين الموجودين، وكيف أننا نستطيع وضع كل ذلك جانباً حين نتوجه إلى الجمهور بمختلف أنواع عملنا الإعلامي، ونقدم خطاباً، إن لم يستطع جمع الناس، فعلى الأقل لا يزيد فرقتهم وكراهيتهم.. خطاب تستطيع أن ترفضه بناء على توجهك السياسي أو الديني أو الطائفي أو أياً كان، لكنك لا تستطيع اتهامه بالتحريض، أو بث الفرقة، أو زيادة المقتلة.

تقبّل طرح الأسماء بمسمياتها كان الأصعب حسبما رأيت، وهذا طبيعي جداً بعد حرب طويلة كان توزيع الصفات على أطرافها هو السبيل شبه الوحيد لإعلان موقفكَ/كِ الراسخ في تأييد طرف ورفض الآخر تماماً، فكيف سنستطيع مثلاً أن نذكر في موادنا وأحاديثنا أسماء تشكيلات المسلحين كما هي دون إضافة صفات المجرمة والإرهابية والطائفية والمرتهنة والعميلة وما إلى هنالك، خاصة أننا نعلم أنها كذلك.. ربما الجملة الأخيرة فيها من الكراهية ما لم أستطع الانتصار عليه وتغييره حتى اللحظة.

أمرٌ آخر أستطيع وصفه بالخطير، وهو أن نظن أنّ تنقية الخطاب من الكراهية يستوجب تمييع الحقائق وتسطيحها، أو الحديث بذات الطريقة عن العدوّ والصديق فقط كي لا نتهم بأننا نبث الكراهية، وهنا أعتقد أن على التدريبات القادمة أن تركز على هذه الجزئية أكثر مما حدث في التدريب الأول، خاصة عندما يكون الحضور من أصحاب الأعمار الصغيرة المندفعين/ـات الذين/اللواتي قد تختلط عليهم الأمور.

 


بعد انتهاء اللقاءات، سألت نفسي: هل أنت مقتنع بضرورة تنقية خطابك من الكراهية؟ وهل عرفت أن الكثير من المصطلحات التي تستخدمها في كتاباتك بمختلف أنواعها هي ما عُقدت هذه الدورة من أجل تخليصك منها؟

فوصلت إلى جواب: نعم أنا مقتنع، لكنني وبكل صراحة لم أستطع حتى اللحظة رفع الغطاء الذي تحدثت عنه في البداية، لكن الأهم هو أنني أريد رفعه، ولن أتوقف قبل فعل ذلك، لكنني وفي الوقت ذاته، أدرك وبكامل وعيي، أن الكراهية جزء أصيل من مشاعر الإنسان، علينا تجنبها قدر الإمكان، لكن ليس علينا انتزاعها تماماً، لأننا نحتاجها أحياناً، إذ من غير المنطقي أبداً أن نحب، أو بتوصيف أدق، ألا نكره من يظلمنا، ويسرقنا، ويحرمنا من حقوقنا ومواردنا، والأهم: من يحتل أرضنا.


تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع صوت وصورة وصدى الذي تنفذه مَوج 2021

عليك أن تعترف بكراهيتك

أولاً

 

فراس القاضي