سأدعوه سام

كتابة :
مريم فضول

طفل مُتبنى

 

“أنا ولد جميل وقوي”

“أنا ولد جميل وقوي”

“أنا ولد جميل وقوي”

ردّدت هذه العبارة أمام المرآة ثلاث مرات

ردّدتها وأنا أنظر مباشرةً في عينيّ من خلال المرآة. 

أخبرتني أمي – وأمي امرأة لا تكذب أبداً– بأنني إذا وقفت أمامَ المرآة وردّدت هذه العبارة عندها سأشعر بطاقة جميلة ولا شيء سيزعجني بعدها.

وها أنا أفعل ذلك، فاليوم هو أكثر يوم سأحتاج فيه إلى تلك الطاقة لتحمل هذا النهار بأكمله.

يوم الجمعة الموعد الرسمي لاجتماع العائلة في بيت جدتي. 

جدتي التي تقبِّلني بصعوبة، تقبِّلني بطرف قلبها كواجب فقط ليبدو بأنّها قد قبّلَتني كباقي أحفادها، أحفادها الذين تُقبِّلهم بملءِ قلبها، أحفادها الذين تترك لهم حرية اختيار نكهة “البونبون” التي يفضلون ويتركون لي نكهة النعناع التي أكره، أحفادها الذين يلعبون في ممرات المنزل الكبير “بالسكوتر” وحين يجيء دوري يشعر الجميع فجأة بالضجيج فأضطر إلى تركه جانباً.

أترك “السكوتر” جانباً وأجلس على كرسي في طرف الغرفة، أجلس وأنا أشاهد أبناء خالتي وخالي يلعبون ألعاباً لم أشاركهم فيها يوماً وأسمع صوت ضحكاتهم تدخل قلب جدتي.

“هيا يكفي لعب اليوم فالغداء جاهز” جاء صوت خالتي منادياً

لم تمضِ دقيقة حتى كان الجميع قد اتخذ مكانه على طاولة الطعام الكبيرة، وخالتي تسكب الطعام كلٌّ في صحنه.

حمداً لله أن أمي موجودة دائماً لتسكب لي وإلا لقضيت النهار بأكمله دون طعام في صحني!

حمداً لله أن أمي موجودة لتشتري لي جميع نكهات “البونبون” عندما نغادر منزل جدتي، وتأخذني إلى الحديقة لألعب “بالسكوتر” وتلعب معي وتضحك معي وتُقبِّلُني بكل ما لديها من قلب.


مضت هذه الذكريات كالبرق في رأسي، مواقف وتساؤلات وذكريات عشتها خلال طفولتي، لم أجد لها تبريراً منطقياً، ولم أستطع تفسيرها.

لا أستطيع أن أوقف سيل الذكريات داخل رأسي، في بيت جدتي، في الحي ومع الجيران، في المدرسة ومع أساتذتي، يتراءى لي موقف تلو الموقف، وأنا أمسك بيدي دفتر مذكرات أمي المفتوح في حضني.

أمي التي جاءت قبل ساعة من الآن لتهديني دفتر مذكراتها، المذكرات التي كتبتها لي ومن أجلي، فغداً هو اليوم الأول لي في الجامعة، ومِن المفترض أنّي كبرت ونضجت بما يكفي لتكون هذه الهدية مناسبة لي.

خلال كل تلك السنوات لم تكتف أمي برعايتي وتنشئتي فقط بل كانت تحادثني يومياً على الورق كصديق مقرّب لها، تخبرني عن كل ما تمر به في يومها العادي وفي عملها، تحدثني عن المشكلات التي تواجهها، تحدثني عني وعن يومي وكيف أكبر يوماً بعد يوم، تحدثني حتى عن ذكرياتها السابقة وما تخططه للمستقبل.

عدتُ لمتابعة القراءة، عدت لأبحث عن إجابات أكثر، لعلّي أستطيع فهم وقراءة ذاتي، لعلّي أجدني على هذه الصفحات إذ غيّبتني الحياة.


5/5/2014

ها أنت مجدّداً تسألني عن والدك على الرغم من أني أخبرتك ومنذ زمن بأنه مات بحادث سير، ولكنك ما زلت تربكني بأسئلتك المتكررة عنه.

“أمي ما هو شكل والدي؟ هل أشبهه؟ لماذا لم يتصور معي؟ هل كان يفضل البيتزا مثلي؟”

أسئلة وأسئلة وكان عليّ اختراع أجوبة تقنع عقلك الطفولي الذي لا يهدأ عن التخيل والسؤال.

هذا الصباح أتيت إليّ واستلقيتَ بحضني، غرست يدي داخل شعرك وبدأت بتمريرها على رأسك، أعرف تماماً أنّك لا تحب يوم الجمعة ولا لقاءات العائلة هذه.

نظرت إلي بعينيك الواسعتين، تلك العينين اللتين تُربكانني بنظراتهم تلك، قرأت فيهما تساؤلاتك المستمرة عن كره جدتك لك، عن حرص خالاتك على عدم لعب أولادهم معك، عن شعورك بأنك مُتجاهل ومُهمل من قِبلهم.

لكنك اليوم لم تسألني عن ذلك، ربما مللتَ أجوبتي الغبيّة التي تحاول أن تقنعك بأنّك تضخم الأمور وتلاحظ أكثر مما ينبغي، وأعتقد بأنك اقتنعت بتفسيراتك الطفولية غير المنطقية وبأنك كائن فضائي ملون وغير محبب للناس البشريين!

برّبك كف عن التحديق بي هكذا، ساعدني أرجوك

كيف لي أن أخبرك الآن بأنّك ولد مُتبنى؟ وبأنني لست أمك الحقيقية؟

حاولتُ وأحاولُ خلال هذه السنوات أن أُهيّئك لهذه اللحظة، أنا أثقُ بك وبعقلك وبما سيصبح عليه في المستقبل ولكن ليس الآن!

دعني أخبرك بأمر ما:

أذكر تلك الليلة البعيدة عندما تصاعدت المشكلة بيني وبين والديّ، حاولت مراراً ومراراً مناقشتهم حول هذا الموضوع، لكنهم لا يريدون أن يفهموا لماذا أرغب بتبنيك، أحاول مجدداً أن أصفك لهم، الطفل ذو السنتين الذي يمتلك كل هدوء الكون في ملامحه، ومع ذلك لم يكن ليخفى عليّ ذلك الذكاء المنعكس في عينيه الواسعتين بشكل عميق، الطريقة التي ينظر بها إليّ، يديه وحركتهما، صوته وتأتأته لبعض الكلمات عندما يحاول محادثتي.

اللعنة! لا أستطيع تركه في ذلك الميتم البائس!

ثارت ثائرة والدي، وعلا صوت أمي: كيف ستحضرين طفلاً من الشارع لتربيه في بيتي؟ طفل لا تعرفين من والديه وكيف جاء إلى هذه الدنيا، ولا تعلمين حتى ما دين والديه الأصليين، لن أسمح بحدوث هذا.

كان النقاش مع والديّ في أوجه وكنت أنظر إلى التبني بأنه فعل يوازي الأمومة، لأنه يعني أن هناك طفل سينقذ في هذا العالم السيء.

“والله إذا جننت وقمت بعمل ذلك فلن يدخل طفل الشوارع هذا إلى بيتي ولا حتّى أنت” صرخت أمي.

عندها بقيت صامتة أمام سيل الكلام هذا، فالنقاش مع والديّ ينتهي دوماً بالصراخ وفرض رأيهم، يرفضون أي رأي مخالف لرأيهم، يخافون من الآراء والتفكير والعمل بما هو غير مألوف ومتعارف عليه في مجتمعهم.

غادرت إلى غرفتي، غادرت وأنا أعلم تماماً ما سأفعله في الغد”

حاولت أخذ نفس عميق، ووقفت أمام المرآة

“أنا شاب جميل وقوي”

لم أشعر بتلك الطاقة –فأمي تكذب– هي ليست أمي وهذه أول كذبة.

 “أنا شاب جميل وقوي”

ما زالت مشاعري متخبطة، هي أمي رغم أنف هذا الكون وجدتي.

“أنا شاب جميل وقوي”

لا يهم إن كانت أمي الحقيقية أم لا، المهم هو أنّني أحبّها الآن أكثر من أيّ وقت مضى.

ردّدت العبارة ثلاث مرات كما أخبرتني أمي –وأمي امرأة لا تكذب أبداً- وأنا الآن أفضل.

مازالت أمي تمتلك الكثير لتخبرني إياه بمذكراتها، ولديّ الكثير لمناقشته معها في الغد، أما بالنسبة لبيت جدتي وبقيّة العالم فسامحهم يا أبتِ لأنهم لا يعلمون كيف يحبون.

بهذه العبارة أنهيت كتابة القصة المطلوبة مني عن “تقبل الآخر” بالتزامن مع حلول الفجر، وجلست أفكر بما كتبت.

استطاعت بطلة قصتي أن تتمرد على أهلها وتتبنى الطفل وتربيه، وواجهت رفض المجتمع وأهلها باحتوائها لطفلها، ذلك الطفل الذي كبر وتفهم سلوك والدته.

ولكن في مجتمعنا اليوم كم من فتاة لم تتزوج ولديها الرغبة في تربية طفل ولا تستطيع؟

كم ستساعدنا القوانين والشرائع على تبني الأطفال وإعطائهم نسب مُتبنّيهم؟

كم سيتقبل مجتمعنا الأطفال المتبنين ويعطيهم حقوقهم كاملة؟

أسئلة كبيرة وحصاد أجوبتها ليس بالمستقبل القريب كما يبدو، ومع ذلك لا شيء يُكتب عن عبث فسأتبنى طفلاً في المستقبل وسأدعوه سام.

كم سيتقبل مجتمعنا الأطفال المتبنين ويعطيهم حقوقهم كاملة؟

مريم فضول