جسور

كتابة :
شهد حمّال

التنوع سبب التّغيّر…

 

قرأت ذات يوم أن “كل شيء في الحياة يحدث لسبب ما، وأن الحياة أهم مدرسة يمكن للإنسان أن يتعلم منها، ولكنها لا تعطي دروسها بشكل مجاني أبداً، دائماً هناك ثمن يجب أن يدفع عاجلاً أم آجلاً”.

 كنت في الثانية عشر من عمري عندها، لم أفهم معنى هذه المقولة  لصغر سني إلا أنني اليوم قادرة تماماً على فهمها.

في المرحلة الثانوية قبل عشر سنوات تقريباً، كانت الحياة تبدو وردية بالنسبة لي، و قد وضعت مخططاتي مسبقاً، أين سأدرس المرحلة الجامعية، وماذا سأدرس، وأين سأعيش، وماذا سأفعل في نهاية هذه المرحلة، كنت ساذجة لدرجة أنني ظننت أن كل ما نريده سيتحقق.

لا شك أن الانفصال عن عائلتي وأصدقائي ومدينتي كان من أصعبِ التجارب التي خضتها، إذ أنني لم أكن قد غبت عنهم في حياتي أكثر من أسبوع، فكيف لي أن أعيش عدة سنوات بعيدة عنهم وفي مدينة أخرى لا أعرفها؟. 

خاصة وأن الحرب زادت الأمر سوءاً، فقد كانت شبكة الاتصالات الأرضية والخليوية تتوقف عن العمل بشكل متكرر لتصبح المدينة خارج نطاق التغطية تماماً، ولم يكن هناك وجود لشبكة الانترنت أيضاً.

صدرت نتائج الثانوية  منذ عدة أيام، وقد حصدتُ مركزاً متقدماً على مستوى المحافظة، سعادة لا توصف حينها، فهي فعلياً بداية تحقيق أول حلم من أحلامي، وهو التسجيل والدراسة في كلية الهندسة في جامعة حلب، مع أن حلب للأسف كانت تعيش حينها واحدة من أصعب المراحل عبر تاريخها، و العيش فيها غير ممكن أبداً، فاضطررت لتغيير الخطة والسفر الى مدينة اللاذقية بدلاً منها، المدينة التي كانت تعيش في ذلك الوقت حالة استقرارٍ وهدوءٍ نوعاً ما بالمقارنة مع باقي المدن.

باءت محاولتي الأولى للسفر بالفشل، لأن الاشتباكات بلغت ذروتها على الطريق الدولي الذي يصل محافظة الحسكة مع المحافظات الأخرى، وحركة النزوح كثيفة جداً والعبور غير ممكن، فعدنا أدراجنا.

وخلال السنوات التالية عملت شركات النقل على إيجاد طرق بديلة للسفر، في محاولة منها للهرب من الأماكن الخطيرة.

اليوم وبعد عدة سنوات، مازلت أذكر تماماً يومي الأول في مدينة اللاذقية، شعور الوحدة والخوف الذي لازمني من اللحظة الأولى، كيف لا وأنا التي اعتدت لقاء أصدقائي وأقاربي بشكل يومي، وكنت متعلقة ببيتِ جدي الذي كان مركز تجمعاتنا ونشاطاتنا، وشهد كل أفراحنا وأحزاننا. 

منزل من طابق واحد، له فسحتان أمامية وخلفية، الفسحة الخلفية مزروعة بأشجار الزيتون والفستق الحلبي والبرتقال، أما الفسحة الأمامية فهي تطل على الشارع مباشرة.

اعتادت جدتي رحمها الله بعد ظهرِ كل يوم تنظيف الفسحة الامامية استعداداً لاستقبال الزوار والعائلة، وبعد التنظيف كانت تدخل المطبخ وتبدأ بتحضير الشاي الآشوري وتجهيز “الدشلاما” وهو نوع من أنواع السكاكر الذي كانت تحضره بنفسها أسبوعياً، وهكذا  تمضي الأيام… 

تزودت للسفر بحقائبي وغيتاري، و وصايا عائلتي وأصدقائي وجيراني: “شهد، يقولوا أنه اللاذقية فيا مشاكل دايماً”، “أنت انتبهي على حالكي ولا تحكي وترافقي ناس غريبين”، “نيالكي تروحي عالبحر وتسبحي أيمت ما بدكي”، “سمعته من يومين أنه صار في جريمة هونيك”، وغيرها من النصائح والإرشادات والقصص التي انهالت علي من كل حدب و صوب.

عند وصولي لمدينة اللاذقية كان البحر هو أول ما توقعت رؤيته، تجولت في الأحياء القريبة بحثاً عنه لكنني لم أجد شيئاً، سألت جارتي باستغراب: أين البحر؟ توقعت رؤيته عند وصولي، أجابتني: “عزيزتي، نحن نسكن في حي بعيد نسبياً عن البحر، بالإضافة إلى ذلك فإن الشاطئ المخصص للسباحة بعيد عن المدينة، وهنا تلقيتُ صدمتي الأولى، إنني أحتاج لوسيلة نقل لمدة خمس عشرة دقيقة للوصول الى البحر، وفي حال أردت السباحة فالمسافة أطول.

الأمر الأصعب على الإطلاق،الاندماج في مجتمع اللاذقية وبين سكانه، كنت أحمل معي إرث بيئة الحسكة المتحفظة وطبع بناتها المحافظ، لم يكن سهلاً أن أفهم طبيعة الحياة في هذه المدينة الصغيرة المليئة بالشباب والشابات الذين يعيشون حياتهم بصخب وضجيج غريب عليَّ، نعم كنت أستغرب كل شيء، اللباس والكلام والسهرات، وأمنع نفسي عن الانخراط بين مجموعات من الأصدقاء، خشية أن أخطئ بسلوك أو تصرف فألوم نفسي عليه، وقد جعلني هذا أبقى حبيسة غرفتي فترات طويلة

لكن هذه العقدة الأخيرة تفككت أيضاً مع مرور الأيام، لأنني يوماً بعد يوم بدأت بالتأقلم والتعرف على المدينة وأحيائها وأخذت أعتاد عليها وعلى أناسها، اكتسبت العديد من الأصدقاء والزملاء من المدينة وريفها وكذلك من باقي المحافظات، كانوا أكثر شجاعة مني في التعريفِ بأنفسهم وأصولهم وخلفياتهم الدينية والطائفية

فالتنوع الموجود في اللاذقية من أديان وطوائف بالإضافة لوجود طلاب يدرسون في الجامعة من جميع المحافظات كان كبيراً جداً ومذهلاً بالنسبة لي، وحينما استطعت استيعابه ومحبته، دخل كل هؤلاء الناس والأصدقاء إلى قلبي بسرعة وسلاسة، تلاشى شعوري بالوحدة، وصرت أكثر فأكثر تفهماً للطباع المختلفة وأنماط الحياة الجديدة، وكان لهذا التنوع لاحقاً الفضل الاكبر في بناء و إغناء شخصيتي التي أنا عليها اليوم بشكل كبير

كل إنسان عرفته كان يحمل معه أفكار وعادات وتقاليد البيئة التي قدم منها وكذلك أن الاختلافات التي عشتها كفتاةٍ قادمة من الجزيرة السورية من بيئة مختلفة تماماً عن البيئة الساحلية شكلت الدافع بالنسبة لي حتى أكون صلة الوصل بين هاتين البيئتين، وعملتُ خلال السنوات السابقة على إيصال الصور الحقيقية عن المدينتين ومد جسور التواصل بينهما

الحياة رسمت لي طريقاً مختلفاً عما كنت قد خططت، كان ومازال مليئاً بالصعوبات والتحديات تارةً وسهلاً بسيطاً تارةً أخرى، وهذا هو المعنى الحقيقي للحياة.

تلاشى شعوري بالوحدة

شهد حمّال