كتابة :
سارة خضر

جمل متقطعة ولكنها من الصعب أن تصدر من أب فقد اثنين من أولاده في ذات اليوم، ومن ثم فقد عمله، واضطر للنزوح مرتين.

 

فقدان ذاكرة

 

يحيى عبد الرحيم حمادة والملقب بأبو طلال “58 عاماً”، المنحدر من مدينة حمص وسط سوريا، اضطر خلال سنوات الحرب للنزوح من حيه لآخر أكثر أمناً، وفجع بحادثة أودت بحياة ابنيه معاً: عبد الرحمن (22 عاماً) وبلال (23عاماً).

وإثر إصابته بفقدان الذاكرة، لم يعد أبو طلال قادراً على مزاولة عمله كسائق على خط حمص بيروت، فبيعت سيارته لتتمكن العائلة من حصاد عيشها. يقول أبو طلال: “لم أعد أميز زوجتي وبقية أبنائي عن سواهم من الناس. كنت هائماً لا أستطيع التركيز بشيء. فقدت قدرتي على قيادة السيارة، فبعناها بسعر بخس”. ثم يكمل بغصّة: “تسعة أشهر، الله لا يدوقها لحدا”.


استطاع أبو طلال ومما تبقى من ثمن سيارته استئجار كشك لبيع الدخان، لكن امتداد الحرب على كامل حمص دفعه للنزوح للمرة الثانية إلى خارج المدينة، وتحديداً باتجاه طرطوس الساحلية، ليسكن مع زوجته وابنيه طلال وأحمد في بيت ابنته الوحيدة وزوجها المقيمَين هناك منذ العام 2011.

لم يكن أبو طلال مستعداً لأن يلقي بأعبائه على أحد حتى لو كانت ابنته التي يصفها بالقوة والصلابة، بل كان مصراً على مشاركتها بتكاليف المعيشة اليومية إلى جانب تأمين احتياجات ابنيه وزوجته. بذلك، عمل الرجل بعقود مؤقتة مع بلدية المدينة رغم قلّة العائد المادي، ثم جاءته الفرصة التي كان مستعداً لها كما يقول:

كنت أتردد على قهوة قرب مرفأ أرواد لأشتري الدخان وأشرب فنجان قهوتي الصباحية، وأحياناً لم أكن أمتلك المال الكافي للدفع، فكنت أوفي ما عليّ لاحقاً. ذات يوم أشار عليّ أحدهم بإمكانية العمل في تنزيل بضائع الركاب من المرفأ مقابل مبالغ بسيطة” وهكذا كان، و”كرّت المسبحة” كما يشير الرجل بالعامية، قاصداً حصوله على فرص عمل أخرى فيما بعد.

 

كافح من أجل الاستقرار

 

لم يكتفِ أبو طلال بتنزيل البضائع ونقلها من وإلى باخرة الركاب، بل ساعد العمال في بناء استراحة المرفأ، وخلال ذلك كان صاحب الاستراحة يقول له:

“عندما ننتهي من البناء، ما في غيرك رح يستلمها”.

بذلك تحوّل أبو طلال لمسؤول عن الاستراحة. يعدّ كل صباح الماء الساخن لتجهيز القهوة والشاي للصيادين الذين يتخذون المرفأ مستقراً لتجهيز شباكهم قبل الانطلاق للصيد، ويبيع الماء البارد للغادي والقادم من جزيرة أرواد المقابلة لشاطئ المدينة، ويساعد الركاب بإنزال بضائعهم.

ومع هذه الأعمال، استمر أبو طلال بكونه معيلاً لأسرته، والأهم بالنسبة له أن يلبي كل ما تشتهيه أم طلال. يقول مبتسماً: “بعد أن استقر وضع ابنائي حاولوا إقناعي بترك العمل، لكني رفضت. عليهم تأمين مستقبلهم بينما أتكفل أنا بنفسي وأم طلال، فكيف لها أن ترغب بشيء دون أن ألبيه لها؟”.

البني آدم إذا ما كافح
بس يئس بيقتله اليأس”

يحيى عبد الرحيم حمادة