أيلول

كتابة :
إسراء سلامة

كل الأديان طريقها إلى الله

 

رائحة البخور تعانق تلافيف المكان، ووجه الليل مضاءٌ بوهج الشموع، قلبُ الناي يشتعل حنيناً بين يدي أيلول الذي توقف ثم نظر إلي وراح يبتسم ابتسامته الطفولية ويقول: “ألمح الكلام على شفاهك، لا تترددي يا صغيرتي… ما هو سؤالك؟”

– “أردت أن أعرف، هل أنت من الرهبان الذين يفضلون العزلة والتعبد بعيداً عن البشر؟ فأنا لم أرك أبداً برفقة أحد!”

– من يجدِ الله بداخله يستطيع أن يراه في كل مكان في الوجود، وفي كل ذرة منه، ولأن الله خلق الإنسان على صورته، ونفخ فيه من روحه كان الإنسان هو التجلي الأعظم له، أما التنوع والاختلاف بين البشر فليس إلا إبداعه في الخلق، لكن كثيراً من البشر يفوتهم هذا، فيصبح الاختلاف مبرراً لإقصاء الأخرين، وإيذائهم، بل وحتى قتلهم، وقد تعلمت هذا من تجربتي الشخصية. 

عندما كنت صغيراً كنت شديد الولع بأبي، أرافقه أينما ذهب، ولا أستطيع أن أخفي أنني كثيراً ما كنتُ أدعو الله وأنا أتخيل أنه يشبه أبي عندما أقول “أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك في الأرض”. 

ذاتَ فجر وبينما كنا نسير نحو المسجد، شرعت أحدثه بلهفة كيف أنني أرغب أن أقتني كلباً صغيراً يصبح صديقاً ثالثاً يرافقنا إلى كل مكان.

ثم أدرت وجهي نحوه، وأنا على وشك سؤاله إن كنا نستطيع اصطحاب كلب معنا في هذه الساعة المباركة؟ 

من نظرته فقط علمت أن الله لا يمكن أن يكون على هذه الهيئة،  صرخ في وجهي: “ألا تعلم أن الكلاب نجسة؟ هل تريد أن تطرد الملائكة من بيتنا؟ “

أردتُ أن أخبره أنني سمعتهُ البارحة يقرأ في سورة الكهف “وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد”. 

فلو كانت حقاً نجسة هل كان الله سيذكرها برفقة رجال صالحين؟

لكنه قاطعني بقوله:

لا تسمعني المزيد من أفكارك الغبية.

مضت أعوامٌ بعدها ورحت أرتحل بين الأديان شرقاً وغرباً، فانبهرت بهذا التنوع العجيب الذي يعكس التفردَ والحكمة في الخلق، وعرفت أن كل الأديان على اختلافها طرق موصلة إلى الله، وليس هنالك طريق أفضل من الآخر، وإن اختياركَ طريق ما يفرض عليك أن تتحمل الأشواك مثل الورود، فليس هناك طريقٌ يخلو من المصاعب ومجاهدة النفس.

ولأنني كنت أرغب أن تبقى روحي مثل زهرة برية حرة أخترت أن أمضي إلى الله من غير خارطة، أمجّد شعاع الشمس، وأقدّس الريح بنارها ونورها، أصلي للنار حتى يملأ دفئها قلبي كما جسدي، ويصمت قلبي حين يرى بومة، يطير مع كل فراشة، ويبتهج ويحتفل بسكون أو جنون.

كان صديقي حسن الذي مرّت على معرفتي به ثلاثةَ أعوامٍ يعرف كل هذا عني، ويتقبلني كما أنا، أو ربما كان يخيل إليَّ ذلك، حيث أن إدراك الآخر لا يمكن أن يكون قبل أن يدرك المرء ذاته أولاً، وكان لحسن أخت اسمها زينب، عرفتها عن قرب، وأصبحت صديقة ورفيقة أمضي معها وقتاً طيباً وجميلاً، بعد فترة أصبحتُ كلما رأيتها رأيت ملامح روحي فيها، الهدوء المشتعل، الاغتراب والاقتراب، العطر والمطر، الحنان والتوقد.

كانت الشمس على وشك الرحيل، والريح بدأت اجتياحها للمدينة، و الأبواب تُصفق كما لو أن أحداً لا يريد أن يشهد ليلة سقوط قلبي. 

أخبرتُ “حسن” رغبتي بأن تقاسمني زينب قلبي، وعقلي، وجسدي، وما تبقى لي من لحظات في الوجود.

نظر إليَّ حسن بحزن… قال :

اعذرني يا أيلول.. لا يمكنني ذلك…

أعلم أن لك قلباً طيباً، وأنك على خلق عظيم، ولكن هل يعلم ذلك غيري؟

وكيف تستطيع إقناع هذه المدينة التي تناديك بالغريب وأنت تقطن فيها منذ ثلاثين عاماً؟ لا أحد هنا يبالي بمن تكون.

وهل يمكنك أن تقنع الشيخ ياسين بعقد قرانكما، وهو الذي ما تردّد لحظةً وقام بتكفيرك واحتقار تفكيرك عندما سمعك تستشهد بأقوال بوذا؟! 

كيف تقنعهم أن تعاطفك مع المجانين لا يجعلك واحداً منهم؟

وأن عدم انتمائك لأي دين لا يعني أنك ملحد؟

سامحني يا أيلول، إنني أخشى أن تعيش أختي وحيدة منبوذة،ثم أدار ظهره وغادر.

كنت واقفا مثل شجرةِ لوز مزهرة هاجمها الصقيع فتساقطت أزهارها دفعة واحدة.

بعد ثلاثة أيام فقط عُقد قران زينب على أحد تجار هذه المدينة البائسة.

منذ تلك الأيام وحتى يومنا هذا، أسمع الناس تؤلف الحكايا والشائعات عني، بعضهم قال إني مشعوذ، آخرون قالوا إنني مسحور، وهناك من قال إني جننت و كنت أمارس طقوس السحر الأسود.

أكملتُ طريقي غير آبهٍ بكل هذا، فالذي خلق التعثرَ خلق النهوض، ومهما كان نوع الطريق الذي يسلكه المرء، هو في النهاية جزء من الخطة الإلهية.

 ولطالما اعتقدت أنه من غير المهم أن يكون لك مكان في قلب الجميع، الأهم أن يكون في قلبك متسع للجميع، لا يقارن النبع بالكأس أبداً، أنت تشرب، وأنا أرتوي.

في أحد الأيام عندما عدت إلى منزلي، وجدت كتبي كلها محترقة، كتبي التي لا تحمل غير كلام الله، صارت أكواماً من القمامة مرميةً في كل مكان.

لم يخفني ذلك، ولم يفاجئني، فأنا أعلم أن القبح ليس له حدود، وأن جهل المرء لا يجعل منه قبيحا فحسب، وإنما مجرماً وقاتلاً بقصد أو بغير قصد ، لكنني لم أرغب أن أكمل ما تبقى من حياتي في محاربة الناس أو مجادلتهم.

رحلتُ إلى حيث ترينني الآن، وصار كل طير حر بلا قفص صديقي، وكذلك كل زهرة صغيرة تكاد لا تُرى، وكل قصيدة مجهولة النسب، فكلها أشياء إلهية مرئية، وغير مرئية.

قال هذا ثم راح يحدقُ في السماء كما لو أنه يلامس الأبدية، أغمض عينيه وغفى كما يغفو الأطفال.

أخترت أن أمضي إلى الله

من غير خارطة

أيلول