أبناء الشرقية.. حقائب الدولار المتنقلة على قدمين

كتابة :
محمود عبد اللطيف

أبناء الشرقية.. حقائب الدولار المتنقلة على قدمين

 

متنقلاً بين المكاتب العقارية بحثاً عن منزل مستأجر جديد، يجد “مزاحم صبحي”، نفسه أمام أرقام مهولة كبدل إيجار للمنزل تصل لضعفي السعر المعروض على أقرانه من الباحثين، والسبب وفقاً لتفسيراته اللهجة التي يتحدث بها، إذ يقول لـ موج إن لهجته التي تشير إلى تحدره من محافظة دير الزور تكفي لإعطاء أصحاب المكاتب العقارية بأنه “خواجة”، يحمل الآلاف من الدولارات في جيوبه ويتنقل بحثاً عن منزل مستأجر فغالباً ما يمازحه أصدقاؤه  الذين تعرف إليهم في دمشق بعد هروبه إليها قبل أربع سنوات بأنه وريث شرعي لأحد أصحاب آبار النفط في الشرقية، والبعض يصل في مزاحه الذي يحمل الكثير من الجد أحياناً لتوقع امتلاك كل عائلة في ريف دير الزور لبئر نفطية في باحة منزلهم أو في أرضهم الزراعية، ولا ضير من “فك الكيس”، والعيش في “بحبوحة”، الأموال التي جنوها من بيع ما يغدق عليهم البئر.


فريسة دسمة

 

غادرت غادة “53 عاماً”، مدينة دير الزور صيف العام 2016، إذا كانت تقطن ضمن المناطق التي خضعت في ذلك الوقت لسيطرة تنظيم “داعش”، وبعد مغامرة عبور نهر الفرات وجدت نفسها مع عائلتها في رحلة تمر عبر الطرق القديمة التي كان يستخدمها رعاة الأغنام لتجد نفسها بعد يومين في العاصمة دمشق وقد خبأت تحت ثيابها ما اكتنزته خلال سنوات سابقة من المصاغ الذهبي ذخراً لـ “الأيام السودا”، وبعد بحث طويل عن مسكن عثرت وزوجها على بيت للآجار طلب صاحب المكتب العقاري أجاره 100 ألف ليرة في وقت كانت الآجارات تقدر بنحو 50 ألف فقط، واشترط عليهم الدفع لمدة ستة أشهر مقدماً، إضافة إلى مبلغ يعادل أجر شهر ونصف كبدل لأتعاب المكتب، مع إضافات مالية تدفع كـ “ضمانة لسلامة العفش وفواتير الكهرباء والماء”، ووافقت العائلة حينها على الشروط لكونها بحاجة ماسة لسكن تستقر فيه بعد طول معاناة مع ممارسات التنظيم ورحلة الهروب، وتروي لـ “موج”، إنها تفاجأت بالفوارق الرقمية بين آجار منزلها الكائن في “قبو بناء قديم”، ومنزل في الطبقة الأولى من البناء نفسه، لتكتشف إنها وقعت ضحية لنظرة عامة سادت عن الهاربين من ريف دير الزور بكونهم من أصحاب الأموال الطائلة، وعلى أساس هذه النظرة يتم التعامل معهم.

اضطرت غادة وزوجها لاحقاً للاستدانة من أقاربها القاطنين خارج سورية لتضيف إلى المال الذي حصلت عليه من بيع مصاغها الذهبي لتشتري منزلاً في منطقة “دمر البلد”، بسعر ارتفع بفعل زيادة الطلب على المنازل في المنطقة في ذلك الوقت بواقع أن غالبية العائلات الباحثة عن منازل في تلك المنطقة كانوا من الهاربين من دير الزور، والأمر نفسه كان في مدينة “جرمانا”، الواقعة شرق العاصمة السورية والتي تضطرب الأسعار فيها مع كل حرب في المنطقة، فقد تأثرت أسعار هذه المدينة في آجارات المنزل خلال العام 2003 الذي كان موعداً لحرب أمريكية على العراق مهدت لاحقاً لاضطرابات أمنية مستدامة في الجار الشرقي لسورية، ثم عادت لترتفع أسعار العقارات المستأجرة والمباعة في هذه المدينة مع بداية الحرب الدائرة في سورية، كان ضحايا هذه الأسعار أول الأمر النازحين من مناطق ريف دمشق والقادمين من المحافظات الأخرى، وصولاً إلى موجات الهاربين من محافظتي الرقة ودير الزور، غير أن سكان الأخيرة كانوا هم “الزبائن الأدسم”، والأمر لم يقتصر على المنازل فبدلات الآجار وأسعار المحال التجارية تضعفت ما بين مرتين إلى ثلاثة في هذه المدينة مع زيادة الطلب عليها من قبل النازحين الذين حاولوا إيجاد فرص عمل لهم يخرجون فيها من دائرة الحاجة إلى الحوالات المالية الشهرية المرسلة من أقاربهم القاطنين في دول الخليج منذ ماقبل الحرب، أو  أولئك الذين وصلوا لتحقيق “الحلم الأوروبي”، الذي يراود بعض إن لم نقل غالبية سكان سورية حالياً، ومن وجهة نظر “أبو أيمن”، فإن أساس المعاناة التي يعيشها السوريون هي طمع بعضهم بالآخر، لدرجة أن مجرد معرفتهم بأنك نازح يكفي لتتحول لفريسة دسمة.


هل حقاً تبحث عن عمل؟

 

لم يحصل مؤيد على فرصة عمل في دمشق بسهولة، فالشاب الذي لا يجيد مهارات الكومبيوتر أو لغة أجنبية ظل طويلاً يصدم برفض طلبه للحصول على أي مهنة تعيله وتوفر مصروفه على والدته التي تعيش على ما يرسله لها أخواله كمصروف شهري، وبعد أن أصبح “عامل بوفيه”، في إحدى الشركات الخاصة كان من حوله يستغربون وجوده في هذه المهنة على الرغم من كونه يتحدر من ريف دير الزور الشرقي، حيث يمتلك مساحة زراعية واسعة كانت تكفيه وأسرته بمحصولها من القمح أو الخضار عن الحاجة لأحد، ويقول مؤيد لـ موج “يعتبرون أن مهنة عامل بوفيه هي مهنة للفقراء، ويظنون أن كل سكان دير الزور يتعاملون بالدولار الأمريكي ولا يحملون العملة السورية في جيوبهم، وغالبية من حولي يستغرب ويبادرني بالسؤال (من الدير وتشتغل مستخدم..؟)”

تنقل “نرجس”، من مهنة إلى أخرى أوصلها إلى الطريق الأقرب لسد الحاجة من خلال العمل في أحد الملاهي الليلية كـ “فتاة طاولة”، وهي مهنة لا تحتاج للتصريح من نقابة الفنانين للعمل كـ “فنانة استعراضية”، وهي الورقة التي تسمح للعاملات في الملاهي بممارسة الرقص، ومهنة نرجس التي لا يتجاوز عمرها 35 عاماً تقتضي الجلوس برفقة الزبائن على الطاولة ودفعهم لطلب المزيد من المشاريب والأطعمة، إضافة إلى دفعهم لممارسة “الرش”، وهي كلمة تختضر قيام أحد الزبائن بقذف العملة الورقية في الهواء كنوع من التحية لأصحاب المحال أو بعض الزبائن، وهي عادة تكون تحية لإحدى الراقصات أو الفتاة الجالسة إلى جواره على الطاولة التي يكون حسابها في آخر السهرة رقماً كبيراً، وعلى الرغم من أن تقاليد هذه المهنة كانت سابقاً تقتضي حصول الفتاة على نسبة من الأموال التي “ترش”، عليها فإن “نرجس”، لا تحصل إلا على أجر يومي إضافة إلى مبلغ بسيط كـ “بخشيش”، من صاحب الملهى، الذي تقول عنه “كل يوم يسألني عن جد أنت من الدير..؟”، في إشارة إلى استغرابه لحاجتها لمثل هذا العمل بالرغم من تحدرها من مدينة الكنوز والتي تقول عنهم نرجس “يعتقدون بأننا في دير الزور نزرع المصاري مثل القمح أو نقطفها من الشجر”.

 

النظرة المعلبة لأبناء دير الزور بكونهم محملين بالدولارات جاءت من الأحاديث التي نقلت خلال بداية الحرب عن سيطرة الفصائل المسلحة المعارضة للدولة السورية على آبار النفط وبدء سكان المنطقة العمل في تكريره بشكل بدائي من خلال ما يسمى بـ “الحراقات”، وبدأت الحكايات عن الثروات المهولة التي شكلها المسيطرون على آبار النفط تنتشر في المنطقة الشرقية، ولعب سكان هذه المنطقة أنفسهم دوراً كبيراً في الإضافة على تفاصيل هذه الحكايات والمبالغة فيها لتصل إلى بقية المناطق السورية وقد باتت أساطير لتكون هذه الإضافات أساس لصورة نمطية شُكلت عن سكان منطقة لم يغادرها الفقر على الرغم من كونها أساس في نهضتي سورية الاقتصاديتين اللتين ارتبطتا بزراعة القطن ومن ثم استخراج النفط من الحقول التي جعلت شرق الفرات مربط خيل الحرب الدائرة في سورية.


“تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع صوت وصورة وصدى الذي تنفذه مَوج 2021”

“ولا ضير من فك الكيس

والعيش في بحبوحة”

محمود عبد اللطيف