أبناء الريف

كتابة :
مروة ملحم

التمييز الإجتماعي

 

بالنسبة لي، لم يكن يوماً الخارج شيئاً محبباً، سواء كان خارج البيت أو خارج الحي أو خارج المدينة، كنت أفضل البقاء داخل أضيق دائرة ممكنة، برفقة الناس الذين أعرفهم جيداً، أهلي أو أقاربي أو أصدقائي المقربين، في حي دمشقي قديم عشت طفولتي وصباي وتعرفت على العالم من عيون أمي وأبي وإخوتي، كنت أرى ما يرونه وأصدق ما يروونه وأسلّم بما يعتبرونه مسلمات.

حين دخلنا المدرسة، كنا أنا وإخوتي نختار أصدقاءنا بعناية ليكونوا من أبناء حينا، معتبرين بقناعة تماماً اننا نمتاز بطباع أكثر رقياً وحضارة، ويستحيل أن نتخذ أصدقاء من أحياء أخرى، أما أبناء الريف فكنا نقضي وقتنا بالسخرية منهم، دون أن يمنعنا أحد أو يخبرنا عكس ذلك، استفحلنا في السخرية من لهجاتهم وطباعهم ولباسهم، مغرقين في فوقية حمقاء مستمدة من كوننا أبناء مدينة، فقط لا شيء غير ذلك، كنا أطفال طبعاً، لا يمكن لومنا بالكامل على حماقاتنا الصبيانية، حتى أننا في أحد المرات تعاركنا مع صبيان في الصف وضربنا بعضنا ضرباً مبرحاً، وحين لم ينفع عراكنا في إيقافهم، عمدنا إلى إلقاء الشتائم والنكات والضحك بصوت عال على أصولهم الريفية، وحتى عندما علم والدي بالموضوع إثر استدعائهم من قبل إدارة المدرسة، لم يوبخونا على هذا التفصيل، وسمعت أبي يعيد ما قلناه على مسامع عمي، “والله الصبيان علقوا مع شوية ولاد ريف”.

كبرنا وتغيرت الحياة، دخلت الجامعة وبعدها سوق العمل، اختلطت بكل أصناف الناس، بكل الطوائف وكل الأصول وكل الأديان، بأصحاب مهن مختلفة ومتنوعة، عالم العمل الصناعيين، عالم التجار، عالم النشطاء المدنيين، عالم الفن والأدب والثقافة، فرض علي عملي في الإعلام والصحافة أن أرى كثيراً من الناس وأتعرف على انتماءاتهم المختلفة، أن أكون ودوداً ومتقبلاً ومحترماً، وفعل فقد غير هذا الأمر من طباعي وشخصيتي، شيئاً فشيئاً تغيرت إلى الفضول تجاه الآخرين، ومن ثم الإعجاب بهم ومحبتهم، قابلت أناساً من كل أرياف دمشق، وأرياف الساحل، من درعا والسويداء ولكل كان لهجته ولباسه ومميزات تختلف عن غيره، قابلت فتيات لا يرتدين الحجاب على عكس كل نساء عائلتي، وتعلمت أن أحترم مذاهبهم ومعتقداتهم، وفهمت بوضوح أن الإيمان بالله لا ينحصر بطريقتنا الخاصة بالتعبير عنه.

لم أكن منتبهاً لحجم التغيرات التي طرأت علي، لكن ما نبهني إلى ذلك، هو حديث خضته مؤخراً مع إخوتي الذين أرسلتهم الحرب خارجاً، كان أخي في تركيا يصف لي العديد من المواقف المؤلمة التي يتعرض لها، بسبب أنه سوري ولاجئ، وتحديداً شبه الأمر بالمعاملة التي كنا نعامل بها أبناء الريف في المدرسة، أخبرني كم يشعر بالإهانة والألم، وهذا حفر في نفسي عميقاً، يا إلهي، ما هذا الذي كنا نفعله، بأي حق ولأي سبب، ها نحن الآن مشردين في بقاع الأرض ويُنظر إلينا على أننا أقل قيمة، لا لسبب إلا لأننا خارج أرضنا، ها هم إخوتي يبحثون في الخارج عن أي رفيق سوري مهما كان دينه أو انتماؤه، ما إن يسمعوا لغة عربية أو كلاماً باللهجة السورية يهرعون للتقرب والتعرف، كيف لم ندرك هذا قبلاً.

الآن لم يعد الأمر متوقفاً عندي على محبة الآخر وتقبله، لكنني مصر على نقل هذا إلى بيئتي الصغيرة، مصر أن تعرف أمي أن جارتها الريفية امرأة جميلة بطباعها ولهجتها وطعم الطعام الذي تعده، أن أبناء الساحل الذين تصادفهم في وسائل النقل أشخاص لطيفون وخفيفو الظل، مصر أن يقدر أبناء منطقتي الآخرين الذي نزحوا من مناطقهم التي دمرتها الحرب، وهذا الأمر الأهم، لم أعد أحتمل تكرار دائرة الظلم الاجتماعي تجاه بعضنا، الآن أرى بوضوح أكبر، ان الأمر قد يكون صعباً أو طويلاً، لكنه ليس مستحيلاً.

لم أعد أحتمل تكرار دائرة الظلم

الاجتماعي تجاه بعضنا

مروة ملحم